ذ: أحمد الريسوني
في الحقيقة لم أكن على اقتناع تام بضرورة تنظيم كأس العالم في أي دولة عربية، لأنني لا أرى جدوى حقيقية في ذلك بالنظر إلى حجم التحديات التي تنتظر الوطن العربي، وكنت ولا زلت أعتبر أن الأموال التي ستصرف على كأس العالم من باب أولى أن تصرف على التعليم والصحة والتنمية والبحث العلمي والتصنيع والإنتاج ومحاربة الفقر والبطالة والتخلف…
في البداية لم أفهم تلك الحملة المنظمة والشرسة التي شُنَّت ضد دولة قطر، والمناوئة لاحتضانها لأكبر تظاهرة عالمية تعرفها الكرة الأرضية، لا تضاهيها أي تظاهرة أخرى، إلى درجة أن هذه الحملة وصلت إلى بعض برلمانات الدول الأوربية، داعية إلى مقاطعتها بكل الوسائل.
وما هي إلا أيام حتى ظهرت على السطح الأسباب الحقيقية وراء هذه الحملة الخبيثة، وأصحابها فهموا رسالة دولة قطر التي أعدتها لهذه التظاهرة قبل أن يفهمها سكان الوطن العربي وحُكَّامُه، ولكن دولة قطر استطاعت أن تغير هذه الفكرة التي كانت مهيمنة علي، بعدما أعطت للعالم صورة لم تكن متوقعة عن كأس العالم، أبهرت بها الجميع على مستويات عديدة ..
وهنا لن أركز على جودة وجمالية وروعة الملاعب الرياضية والمرافق والفنادق والمواصلات، والتي تعكس الذوق الرفيع الذي وصل حد الخيال العالمي، فهذا أضحى معلوما بالضرورة من خلال الصور الحية التي تنقلها كل وسائل الإعلام الدولية بإعجاب وانبهار…ولن أركز على جودة الخدمات والمساعدات التي وصلت درجة السخاء والكرم الحاتمي الذي لا يعرف فحواه، ويتذوق معناه إلا العرب، علما أن ذلك عمل في منتهى الذكاء والحكمة،
من أجل استقطاب أكبر عدد من المتفرجين من كل الجنسيات، ساعدت فيه الإمكانيات المادية التي تتوفر عليها دولة قطر، والتي أحسنت استعمالها واستغلالها في فترة مهمة وحرجة يعرفها المنتظم الدولي وببراعة كبيرة.
ما سأركز عليه هو البعد الثقافي والحضاري الذي هو العنوان الحقيقي لهذه البطولة العالمية… هذا البعد الذي جسدته هذه التظاهرة في أدق وأبسط التفاصيل التي لن تخطر على بال أحد، ولكن ذلك لم يكن بالأمر الهين أو السهل أمام الحملة الشرسة والممنهجة التي قادها أعداء دولة قطر، من أجل ثنيها على تطبيق رؤيتها المتميزة والمتفردة، لما تشكله هذه الرؤية من خطر على أصحاب المشاريع الثقافية المضادة.
إن من أكبر الانتصارات العظيمة التي حققتها دولة قطر في هذه التظاهرة هو عدم السماح لمجتمع المثليين من التظاهر والتباهي بشذوذهم ورذائلهم ومكبوتاتهم في الشوارع العامة، في زمن أصبح كل الجبناء والضعفاء والانتهازيين يتوددون إلى لوبي المثليين في كل مجال وقطاع.. فأسهم المثليين أصبحت ترتفع في بورصة السياسة والمال والإعلام، وأصبح لهم نفوذ في البرلمانات والحكومات العالمية، ويضغطون بكل قوة وهمجية، من أجل تمرير قوانينهم التي تبيح المثلية في كل مناحي الحياة، وفرضها على كل الدول .. إلا أن كل ذلك لم يستطع خرق قتاد دولة قطر وانكسر على صخرتها العظيمة.. وقامت بمنع سخافاتهم وشذوذهم المقيت.
والأمر نفسه ينطبق على الحرية الجنسية والسكر العلني في الشوارع العامة، وهذا يجسد حقيقة نجاحا أوليا قد يتجاوز نجاح التنظيم نفسه، أمام حجم وقوة الضغوط والمؤامرات التي حيكت بالليل والنهار ضد دولة قطر ..
إلا أن الأمر لم يقف عند حد منع هذه المظاهر الشاذة والمسيئة للإنسان والإنسانية، والمضادة للفطرة السوية والسليمة، بل قامت دولة قطر بمبادرات ثقافية شجاعة ومتقدمة من حيث الفكرة والوسائل الإبداعية التي رافقتها.
لقد جعلت دولة قطر من هذه التظاهرة الكونية فرصة كبيرة لا يجب إضاعتها من أجل التعريف بحقيقة الإسلام، ومحو تلك الصورة المشوهة التي يسوقها الإعلام الغربي المعادي للإسلام وغلمانه من أبناء جلدتنا الذين دخلوا جحر الضب وسكنوا فيه.
لقد زينت دولة قطر كل شوارعها بالعديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد على عظمة الإسلام ودعوته إلى التسامح والسلام والمحبة، وهي بذلك تعبر عن اعتزازها بالإسلام وافتخارها به والدعوة إلى فهمه واعتناقه .. كما جهزت كل الملاعب والمرافق بمساجد وأماكن للوضوء.. واستدعت أجمل وأشجى الأصوات لرفع الأذان وقد بدأت علامات الانبهار والشوق والإعجاب تظهر على الوفود التي شاهدت وعاينت كل ذلك الجمال، سمعت الأصوات الشجية التي تصدح بالأذان وهذا وحده نجاح كبير في تنظيم هذه التظاهرة .. هذا بخلاف بعض جيرانها الذين قاموا ببناء معابد للهندوس والوثنيين، وأقاموا حفلات الهالوين والكثير من الفضائح في أراض قريبة من أماكننا المقدسة.
قد يبدو للبعض أن ما تقوم به دولة قطر ما هو إلا زوبعة في فنجان .. وبهرجة لا طائل ولا فائدة منها، فلو كان الأمر كما يتوهم هؤلاء ما قامت الدنيا ولم تقعد عند أعداء الفضيلة والفطرة الإنسانية، الذين أوصلوا رفضهم واحتجاجاتهم إلى البرلمانات الأوربية، ودعوا في مناسبات دولية إلى مقاطعة كأس العالم وإفشال هذه التظاهرة بكل الوسائل الماكرة.
إن دولة قطر لم تصل إلى هذا المستوى المبهر من التخطيط والإنجاز بين عشية وضحاها، فمنذ عقود وهذه الدولة الصغيرة في المساحة والكبيرة في الوعي والإدراك تعمل على استقطاب كل الكفاءات والخبرات العالمية، ولا سيما العربية منها، ففتحت أبوابها لكل العقول والأدمغة المتميزة، وفتحت جامعاتها ومختبراتها ومدارسها ومراكزها العلمية لهم جميعا، ومكنتهم من كل وسائل العمل والإبداع والإنتاج الفكري.
كما أن دولة قطر اختارت لنفسها مسارا سياسيا خاصا، ربما أثار مجموعة من التساؤلات والاستفهامات، ولكن استطاعت في الوقت نفسه أن تحافظ على حبل الوصال مع الجميع، والتعامل بحكمة كبيرة مع خصومها وجيرانها العرب بالشكل الذي لا يحدث قطيعة كبيرة أو عداء متأصلا.. وهي إلى حدود اليوم تحقق نجاحا كبيرا في ذلك ..
إن دولة قطر ، وإلى جانب إنجازاتها الاقتصادية والتنموية الكبيرة، ها هي تحقق نجاحات أخرى على المستوى الثقافي والحضاري، ونجاحات على المستوى التنظيمي والاحتفالي، كسرت به ذلك الاحتكار الذي هيمنت عليه الدول الغربية لوحدها.
فإذا كانت دولة قطر قد منعت الرذيلة بكل أنواعها .. فقد أبدعت في الفضيلة بكل أشكالها ..
– تحية لدولة قطر العظيمة –