فرنسا وجنون العظمة

بقلم: نود الدين زاوش

ليس من باب الصدفة أن يصيب فرنسا السُّعار هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى؛ فالدولة التي كان ينعم مواطنوها، إلى حد قريب، بمتوسط دخل معتبر، ومؤشرات تنموية مطمئنة وواعدة، صار اقتصادها يتسارع نحو الانحدار الشديد والسقوط الحر، وكأن أيامها باتت قليلة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ وما اكتظاظ شوارعها بالمظاهرات المليونية عند كل محطة ترغب فيها الحكومة لإصلاح ما يمكن إصلاحه تداركا للوضع القاتم والمستقبل المظلم إلا خير مؤشر ودليل، مثلما ما وقع في مظاهرات 19 يناير الأخير.

لا يشكل التراجع الاقتصادي والاجتماعي في فرنسا المستنقع الوحيد الذي علقت فيه البلاد، حيث بلغ الدَّين الخارجي 3 آلاف يورو، أي ما يعادل أكثر من قيمة الناتج الإجمالي المحلي؛ بل الأفظع منه تراجع تواجدها في كثير من البلدان الإفريقية التي كانت تنهب خيراتها بلا عد، وتستنزف مُقدراتها بلا حساب؛ فبعد انسحابها من إفريقيا الوسطى التي كانت تعتبرها فرنسا مَحْمِيتها بامتياز، على أساس أن اللغة الفرنسية لغتها الأولى وأن فرنسا من سكَّت عُملتها، وبعد خروج فرنسا المذل من مالي وتعويضها بقوات “الفاكنر” الروسية، ها هي اليوم تحزم حقائبها للخروج من بوركينافاسو بعد المظاهرات الحاشدة التي نظمها الشعب ضد التواجد الفرنسي، مما حذا برئيس الدولة لإلقاء خطاب يأمر فيه بخروج الجنود الفرنسيين من أراضيها. هكذا بدأ عقد التحكم في إفريقيا ينفرط من بين أصابع “ماما فرنسا”، التي يبدو أنها ما زالت ترى نفسها دولة احتلال، وأنها الآمرة والناهية في المنطقة، وأن بوسعها أن تأخذ ما تشاء ممن تشاء بدون أي مقابل.

بجانب هذه التراجعات الخطيرة التي مست شتى الميادين في فرنسا، ينضاف التراجع الأخلاقي الذي يتمثل في نظرة الاستعلاء اتجاه الآخر، وفي منطق الابتزاز الذي ما فتئت تتعامل به مع دول الجوار، تماما مثلما ضغطت على البرلمان الأوروبي لاستصدار قرار غير ملزم يدين حرية الصحافة في المغرب، في مشهد غريب يدعو للاشمئزاز والقرف أكثر من أي شيء آخر، مثَلُها في ذلك مَثَل العاهرة التي تحاضر في الشرف.

إلا أن آخر سقطات بلد “الأنوار”، ما قامت به قبل يومين جريدة “شارلي إيبدو” المدعومة من “ماكرون”، بدعوى حرية الصحافة، حيث نشرت هذه الأخيرة رسوما كاريكاتورية تحتوي على مباني محطمة، وعمارات منهارة، وأشلاء متناثرة، في إشارة للزلزال الذي ضرب تركيا مؤخرا، معلقة: “لا نحتاج حتى إلى دبابات”؛ بمعنى أن الزلزال الرهيب الذي شرد الملايين في تركيا، وأزهق آلاف الأرواح البريئة من أطفال وشيوخ ونساء، قد أثلج صدر فرنسا “المتحضرة”، وأعفاها من عناء القيام بضربة عسكرية لتركيا، مادام الزلزال قد قام بالمهمة “النبيلة” على أحسن وجه، في مشهد غارق في الخبث والدناءة والوضاعة وقلة المروءة وجنون العظمة.

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تخليد اليوم العالمي للمناطق الرطبة بجهة الشرق تحت شعار: “آن الوقت لاستعادة النظم البيئية للمناطق الرطبة بالموقع البيولوجي لمصب ملوية”

مكتب “ليزمو” يعقب بقلب مفتوح: “مدهر تاج فوق رؤوسنا… و نؤثره على أنفسنا”