بقلم: عبد المنعم سبعي
صدح ذات يوم الفيلسوف رينان في خطاب الأكاديمية أن الوطن يتكون من الموتى الذين أسسوه ومن الأحياء الذين يستمر بهم، ومن بين أولئك الذين تستمر بهم هذه الربوع من الوطن، الباحث والأستاذ الجامعي بدر المقري، فهو شخصية فذة أنجبتها مدينة وجدة وظلت معطاءة متوهجة كلما ذكرت الثقافة والبحث في تاريخ وجدة ومقوماتها، كان هم السي بدر المقري وشغله الشاغل هو ابراز الجانب الحضاري من تاريخ مدينة وجدة في زمن أصبحت عاصمة الشرق نموذجا صارخا للبداوة الفكرية وغياب الوعي بالتاريخ المشرق للمدينة التي جنى عليها موقعها الحدودي بشكل كبير كما جنى عليها اعتماد المقاربة الأمنية على حساب الاستحضار الدائم للغنى الحضاري والمقومات التنموية للمدينة الألفية، لذلك أنعته كما ينعته كثير من المتتبعين بصاحب المشروع الحضاري لتاريخ مدينة وجدة الذي يروم حفظ ذاكرة مدينة وجدة الجماعية، ولذلك سيوزع مشروعه على محورين رئيسيين أولهما التأليف في قضايا جزئية من تاريخ مدينة وجدة وثانيهما في تنظيم المعارض والفضاءات والمتاحف المرتبطة بذات الموضوع.
لم يكن التلميذ بدر المقري ذو السبع سنوات، يدرك أن اليد التي كانت تتأبط محفظته، وهو في طريقه إلى مدرسة عبد الكريم الخطابي أومدرسة ابن باجة بوجدة، ستشتغل على وثائق وتحمل ملفات ثقافية وفكرية ما يرسم التوجهات العامة لمشروع فكري كبير همه حفظ الذاكرة الجماعية لمدينة وجدة في وقت تنكر فيه الوجديون لتراثهم وتاريخهم.
فبالرغم من الاختلافات المرتبطة بكلمة السر التي فتحت للسيد بدر المقري كل الخزائن المعرفية، تتفق التحليلات المصاحبة لمسارات أستاذ جامعي وهب جل وقته للبحث والتنقيب والتأليف، في كونه ينحدر من عائلة علمية وفكرية اشتغلت بالفقه والأدب والقرآن، فهو سليل الفقيه المكي المقري المتوفي سنة 1916 والذي اشتغل محتسب مدينة وجدة وأمين المستفادات بها، كما أنه يثير بالفعل الاستغراب في هذه الصدفة التي جمعت بين الفقر التنموي للمدينة التي ينحدر منها وبين دوره الطلائعي في ابراز غناها الحضاري والفكري والرياضي والروحي.
مدينة وجدة أو عاصمة الجهة الشرقية هي عدم النفعية من منطق استعماري، لكن من حسن حظ التاريخ، أن عدم النفعية لا يشل الأرحام لتلفظ الرجال والنساء الذين قد يصنعون تاريخ هذه المنطقة في مختلف المحطات، فمدينة وجدة ليست بالضرورة ذلك الفضاء الذي يشقه الوادي الناشف كناية عن جفاف في الموارد المائية كما هي في الحركة الاقتصادية والتنموية، لكنها أيضا الرقعة التي قدمت للوطن ذلك الإنسان المؤمن بوطنيته، التواق إلى معرفة كنوز مجاله المادية منها واللامادية، ولنا في ديوان النضال والدفاع عن الوطن وفي بيبليوغرافية الفقهاء والعلماء والباحثين والفنانين من الأسماء ما يؤكد تلك القولة الشهيرة: من الشرق تأتي النبوءة كما السموم، ولعل غنى تاريخ هذه المنطقة وجهود أبنائها الثقافية والفكرية لم يشفع للسياسة في تجاوز فقر جغرافيتها، كما لم يشفع لإعلامييها وصحافييها تجاهل الأعمال الرائدة التي تنجز في المجال الفكري الرصين، وتلك في اعتقادنا واحدة من عوامل النسيان وفقدان الذاكرة التي يحاول السي بدر المقري إحياءها بأعماله وأبحاثه، ربما يكون القدر المأساوي هو الذي جعل هذه الجهة تضرب الأرقام القياسية في الفقر والأمية والتخلف… وربما يكون إحساس أبناء هذه الجهة بالغبن ما يجعلهم يميلون أحيانا إلى العاصفة أكثر من ميلهم إلى العاطفة لكنهم في حال الابداع والعمل الأكاديمي والحذقة فيه فهم نجوم في سماء المملكة، وتلك في نظرنا حالة السيد بدر المقري، فمن هو هذ الرجل الذي لفرط ما أنجز من المعارض والمتاحف والصور التاريخية للمدينة قد يعتقد البعض أنه مصور فوتوغرافي؟
تقول السيرة الشفوية للسي بدر المقري إنه “من مواليد مدينة وجدة سنة 1962. لا يزال مؤمنا بأن للزمان والمكان عبقريتهما، كما هو سائد في بعض الكتابات في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن ثم كان أولوية ذاتية وموضوعية في آن واحد تأثير نشأته في محيط ما سارت بذكره الركبان (la rue de Casa)، مع تفاعل ذلك مع الإطار الزمني لسنوات الصبا (السبعينيات)، والأوج في كل ذلك رصيد عائلي متنوع وغني بنيته العميقة مسار يقارب 10 قرون. والمنطق الذي يحرك دواليب هذا المسار العائلي (آل المقري) هو الجمع بين الحسنيين: طلب العلم وتزكية النفس بالمسارعة إلى الخيرات. “
تابع دراسته الابتدائية بمدرسة عبد الكريم الخطابي و ابن باجة. والدراسة الإعدادية بثانوية باستور، والدراسة الثانوية بثانوية عبد المومن، والدراسة الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
بالنسبة للتربية على الثقافة والمطالعة والبحث، هناك طاقات مختلفة للترويض والإذعان بدء من حرص الوالد الذي لا يطلب برورا بدون مثابرة في الدراسة إلى ممارسة الفعل الثقافي في أحضان أسرة عرفت في وجدة بأنها عالمة، ولنقل إن سي بدر الباحث والمؤرخ يرعى التلميذ المثابر الذي كانه ومارس البطولة، وبهذا الشكل عاش الحياة الحقيقية لابن عائلة وطنية ومثقفة. ربى الأستاذ بدر قدره الخاص بعد أن رباه أبوه بنفس الاتجاه ونفس القيم، فبعد دراسته بوجدة انتقل إلى السوربون الجديدة و المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، ثم كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، ثم كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة، مما أهله لتدريس التاريخ والاشتغال على حقول معرفية كبيرة من قبيل تاريخ الأفكار، الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، تاريخ العلوم، قضايا التاريخ والذاكرة، الدراسات الفلسطينية.
لكن مرحلة البحث في التاريخ الجماعي لمدينة وجدة ستمكنه من توصيفه كأبرز أعمدة البحث التاريخي بوجدة، وفي هذه المحطة سيدعم فكرة تأسيس مؤسسة المكي المقري للتاريخ والذاكرة، بل إن شغفه بالموروث الحضاري لمدينة وجدة سيجعله في طليعة المؤلفين في هذا الباب بموازاة مع تنظيم المتاحف التي غالبا ما تكون شواهد حية تنطق بها صور وأعمال ذات قيمة علمية نادرة. ومن هذه الأعمال ما ذكر به السي بدر نفسه: -“متحف تربوي خاص بتاريخ التعليم بمدينة وجدة، هو جهد مقل وثمرة 27 سنة من البحث والتنقيب، متحف خاص بتاريخ الطب الحديث بمدينة وجدة، في رحاب كلية الطب والصيدلة بوجدة. معارض دائمة خاصة بتاريخ مدينة وجدة وبذاكرتها الجماعية في بهو الجماعة الحضرية، وفي مدرسة ابن الخطيب (Berthelot)، وفي دار السبتي، وفي بهو الولاية. متحف سككي يوثق لأولية مدينة وجدة في تاريخ السكك الحديدية بالمغرب، ومتحف يوثق دور مدينة وجدة في دعم الثورة الجزائرية وحركات التحرير الإفريقية.”
لقد توجه في هذه المحطة إلى مسؤولي مدينة وجدة وأبنائها النافذين بما نخاله يشبه تلك القولة الشهيرة لنابليون وهو يتوجه إلى جنده سنة 1789 وقد حملوا على مصر إذ قال: ” أيها الجنود لا تنسوا بأن أربعين قرنا تنظر إليكم من أعلى هذه الأهرامات ” فهذا الباحث في تاريخ وجدة يقر بأهمية الذاكرة الحية كما طبعت عمقه الإنساني ونحتت على حجر صغره قيما سيذكرها ويتشبع بها ويدافع عنها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وهذا ما يستشف من تضرعه إلى الله تعالى “الله أدعو الصحة والعافية و تيسير أسباب تأسيس (مؤسسة المكي المقري للذاكرة و التاريخ) لتكون مركزا للتوثيق خاصا بتاريخ مدينة وجدة وبذاكرتها الجماعية، لأن روح أي مدينة إنما هو ذاكرتها “
إن المتتبع لمسارات بدرالمقري لا يخطئ قطعا حجم الأبحاث التي اشتغل عليها إشرافا وتوثيقا وتأليفا فهو مقدم ومحقق كتاب ” إعمال الذهن والفكر في المسائل المتنوعة الأجناس الواردة من الشيخ سيدي محمد بن أبي بكر بركة الزمان وبقية الناس” لأبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني المغربي ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة سنة 2002، وصاحب كتاب “خطط المغرب الشرقي”، ومؤلف كتاب “مساجد وجدة العتيقة”، وكتاب ” من أجل أركيولوجيا جديدة لتاريخ العلوم: رسائل قاضي وجدة أحمد سكيرج (ت 1363 ه/ 1944م ) في الجبر والتعمية والفرائض ” تحقيق كتاب ” أزهار الكمامة في أخبار العمامة لأبي العباس أحمد بن محمد المقري، وصاحب كتاب “ببليوغرافيا تاريخ مدينة وجدة ” وكتاب ” تنظيم المجال في مدينة وجدة ، مقاربة تاريخية وفقهية” وكتاب “نظام الأشياء مقاربة في تاريخ الأفكار الحيوية” وترجم لفرانسواز كيستمان “يا أهل فلسطين … الوداع ” وألف كتاب ” انتروبوجيا تاريخ الأفكار في المغرب المعاصر- نظرات في كتابات عمر بن جلون (1936-1975 )… فضلا عن مؤلفات أخرى باللغتين العربية والفرنسية.
ومن نافلة القول إن الجهد الذي بذله بدر المقري في إحياء الذاكرة الوجدية هو جهد شخصي مفرد بصيغة جمع مؤسساتي لم يلق ما يستحق من التعريف والتتبع في زمن طغت فيه التفاهة واستحوذت دناءة السخافة على شرف الثقافة.
