بقلم: عبد المنعم سبعي
أفادت مصادر إعلامية أن الوكيل العام الجديد للملك لدى محكمة النقض ورئيس النيابة العامة أمر الوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف بإعطاء تعليمات للضابطة القضائية لإجراء أبحاث وتحريات دقيقة حول أشخاص يزعمون انتماءهم لمهنة الصحافة، أو لا يتوفرون على الشروط المطلوبة قانونا لممارسة مهنة الصحافة وفق القوانين والتشريعات الجاري بها العمل وقد جاء هذا الإجراء القضائي ببلادنا من أجل وضع حد للفساد الذي تسلل إلى النشاط الإعلامي والصحفي ، حيث أصبح مرتعا للتحايل وفضاء لتصفية الحسابات ومجالا للتسول والاسترزاق على غرار ما أصاب العمل السياسي من انحراف وتشوهات، ولقد قيل في وقت مضى إذا أردت أن تعرف شعبا فابحث في قضاياه، والقضايا هنا تعنى اهتماماته وثقافته وفكره.. وكانت هذه الأشياء تظهر في خبر أوتحليل أو استطلاع أو رأى كاتب أو مفكر. وإذا حاولنا الآن أن نطبق هذه القاعدة على أحوالنا في المغرب عموما والجهة الشرقية على وجه الخصوص فسوف نكتشف أن زماننا تضاءل كثيرا..في أيام زمان كانت قضايا تنمية الوطن والهوية وتحرير الأرض والبشر وقضايا الحريات والديمقراطية والأحزاب الحقيقية هي المهيمنة.. وكانت الكتابة الصحفية تعكس ذلك كله.. كان الكبار يختلفون في الآراء والمواقف ولكن بنزاهة وعلم وترفع، وكان الفنانون يبدعون كل على طريقته وأسلوبه وكانت صراعات السياسة قائمة ولكن بوعي وانتماء ووطنية .. وكانت سمعة الوطن وتاريخه وثوابته خطوطا حمراء لا تجاوز فيها ولا تشويه.. وكان هناك ضمير عام يحكم سلوكيات المجتمع ابتداء بالخلافات في الآراء والمواقف وانتهاء بما يقال في وسائل الإعلام وكان الضمير العام يحكم كل شيء لأنه يتجرد من كل نوازع المصالح والغايات.. كانت المعارك تدور على صفحات الجرائد ولكنها معارك أفكار وليست صراعا على صفقة أو لحساب رجل أعمال أو أبواقا للسلطة.. وكان للترفع فى السلوك والأخلاق فرسان يعرفهم الناس وكان للأقزام والمشوهين فكريا وسلوكيا أماكن تشبه بيوت السوء التي يرتادها المشوهون من البشر.. كانت الحياة بهذا الوضوح في كل شيء ولم تكن الأقنعة قادرة على إخفاء الحقائق.. والآن حاول أن تتابع مواكب الأمور حولك سوف تكتشف أننا نعيش زمانا غريبا فلا فرق بين تنمية الأوطان وجهاته وبين تكريس تخلفها.. ولا فرق بين الفساد السياسي والفساد الإعلامي إلا في حالات نادرة، والشاذ لا حكم له.. ولا فرق بين صحافيين دخلوا مزابل التاريخ، وصحافيين آخرين كانوا تاجا للنزاهة والحياد.. لا فرق بين فرق النفاق وفرق الحق بين من أضاءوا العقول ومن افسدوا الناس بالباطل.. بين وجوه تراها وتشعر بحالة من الغثيان ووجوه تمنيت لو انك صافحتها ذات يوم .. لقد اختلت موازين الأشياء والبشر والأخلاق في عالم فقد كل القيم النبيلة وأصبح وكرا واسعا للأفاقين والمحتالين وتجار الفرص.
إن هناك أشياء كثيرة تغيرت في الواقع المغربي والمواطن المغربي وصورته أمام العالم .. هناك سلبيات طفحت على وجه الشارع المغربي في السلوكيات والأخلاق وهى نتيجة طبيعية للفقر والجهل والتخلف، ومن بين المجالات التي كشفت هذا الواقع المتخلف المريض للمجتمع المغربي، الإعلام الجهوي وهو يعيش أسوأ حالاته فكرا وسلوكا مقارنة مع أزهى أيامه انطلاقا وبداية.. وهذا تناقض غريب أن يزداد الانتشار وتتراجع القيمة.. أن ينمو التأثير وتضعف المسؤولية أن نتابع كل شيء ولا نشعر بقيمة أي شيء.
هذا التكدس الرهيب في المواقع الالكترونية وصفحات الفايسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي والهاتف المحمول، عوض أن يسهم في تنوير المجتمع المغربي أسقطه في مستنقع من الإسفاف والانحدار وغياب المفاهيم والمسؤولية .. لقد لعب الإعلام الجهوي منذ ظهوره في العالم دورا كبيرا في إشاعة الخبر وتقديسه، وإحاطة التعليق والتحليل بقدسية الحرية البناءة.. هذا الإعلام استطاع في بدايته أن يكون صاحب دور ورسالة، وبقدر ما صال وجال في معارك اجتماعية وسياسية وفي محطات متعاقبة، بقدر ما سقط مرة واحدة في مستنقع الإسفاف أمام فهم خاطئ للحرية، كما سقط في مستنقع الابتزاز أمام تفشي ظاهرة الاسترزاق الصحفي. إن الإعلام الجهوي يخسر كل يوم الكثير من قواعده وآثاره وثماره المرجوة أمام كم كبير وخبرات هزيلة وغياب تام لأهم عناصر الممارسة الإعلامية وهي القيمة والمسؤولية .
صحيح أن الإعلام الجهوي هو الأصل وأنه كان في السابق مسلكا من مسالك الديمقراطيات العتيدة ، لكن حينما يتهاوى الإشعاع الذي يعطي قيمة للشيء المنبعث منه، يتساوي الماس مع التراب.. ويتساوي ماء النهر مع بقايا المستنقعات. وهذا الشيء الذي يضئ ويشع يمنح صاحبه المصداقية والجلال والهيبة.. ومن هذه الهيبة نعرف قيمة هذه الأشياء.. فالصحيفة والموقع ليست مجموعات من الأخبار والمقالات وليست عددا من الصفحات المتنوعة بتنوع أغراضها ولكنها مصداقية ووجه من أوجه الديمقراطية، وموقف جاد وإحساس بالمسؤولية.. وحين تسقط هيبة الإعلام تتحول إلي مجرد أشباح تتحرك في فراغ سحيق.. وحين يتحول الإعلامي الي بهلوان يفقد احترام القراء ولا يجد منهم غير النكران والجحود.. وحين يسقط عرش صاحبة الجلالة يسقط معها موكب الحقيقة وقدسية الخبر.. هذا يعني أن الإعلام يستمد القيمة من الأثر وحين يفقد القيمة يتراجع الدور والأهمية..
إن آفتنا اليوم تتمثل في فساد بعض المحسوبين على الإعلام الجهوي والشيخوخة المبكرة التي أصابت بعض المنابر الإعلامية، ولا غرابة أن نرى عناوين بلا مقرات ولا صحافيين ولا غرابة أن تصلنا حيل بعض المحسوبين على هذه المهنة وأخبار المتابعات القضائية لصحافيين في قضايا النصب والاحتيال، وتزكمنا مظاهر الابتزاز وتغيير الحقيقة والانغماس في حمأة الفساد، إنه وجه من أوجه غياب صوت الحكمة، وعندما يغيب صوت الحكمة يتبدل السدنة والكتبة والعرافون إلى طبالين وعازفي المزمار، وإذاك يبقى أمر إمعان النظر في مرآة الحقيقة آكدا في الوجوب، لتظهر المثالب والعيوب بكل الوضوح اللازم، ولتفادي المفاجآت التي قد يحملها الآتي من الأيام. فالكلمة والرأي والصورة باتت سيدة العالم، تصنع حالة، وتقدم واقعا وربما تملي موقفا، إنها أقوى الإرادات في عصرنا وأقوى مواقع التأثير وأشدها خطرا.
إن هذا الإعلام المرتبك كان سببا رئيسيا في حالة الفوضى التي يعيشها الشارع المغربي وما بين تجاوزات فكرية وأخرى أخلاقية وزعامات ورقية كاذبة وتجارة بالكلمة والصورة، تدور عجلة الإعلام وكأنه ليث تربى داخل أسرة صغيرة وحين كبر وأصبح أسدا التهم الجميع.فهل ستكون صرخة رئيس النيابة العامة بداية محاصرة إعلام الاسترزاق؟
