جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي الصحة بوجدة ومشروع الفارابي السكني بالسعيدية تحت المجهر

قررت جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي الصحة بوجدة، في ظل موجة تأسيس الوداديات السكنية التي اجتاحت البلاد، أن تخوض بدورها غمار الاستثمار العقاري، غير أنها تناست أن هناك من أوصلتهم هذه الموجة إلى برّ الأمان، بينما جرفت آخرين إلى أعماق اليأس بلا أي أمل في النجاة. وقد كانت الجمعية، من خلال مشروعها السكني “الفارابي” بمدينة السعيدية، من بين من اختاروا الانجراف، بعيداً عن أهدافهم

الاجتماعية الأصلية، حيث أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك تخليها الصريح عن التزاماتها الأخلاقية، بعدما تورطت في ممارسات “انتهازية” لا تختلف عن سلوك المضاربين العقاريين، في تحايل فاضح على ثقة المنخرطين ، واستغلال غير مشروع لأموالهم الجماعية.

فقد قامت جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي الصحة بوجدة، سنة 2004، بالترويج لمشروع سكني بمدينة السعيدية تحت اسم “الفارابي”، وقّدّمته كمبادرة واعدة ذات طابع اجتماعي، ومنذ انطلاقته، استقطب المشروع مئات المساهمين، خصوصًا من أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج، الذين تم استدراجهم دون إطلاعهم الكامل على تفاصيل المشروع أو خلفياته الحقيقية. وقد تم التعامل مع هذه الفئة بنوع من الانتهازية الصريحة، حيث جرت إعادة بيع ما يُعرف بـ”حقوق الانخراط” مقابل مبالغ إضافية، خارج أي إطار قانوني أو تنظيمي، في ممارسات وصفها عدد من المتضررين بـ”السمسرة المقنّعة”.

لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن المساهمين، ليجدو أنفسهم في قلب واحدة من أكثر القضايا العقارية تعقيًدًا وإثارة للجدل في جهة الشرق، بعدما تحوّل هذا المشروع السكني من مبادرة ذات طابع اجتماعي، إلى بؤرة للمتاجرة والاستغلال، ونزاع قضائي مفتوح .

وقد تم تمويل اقتناء العقار،  وكل ما أنجز من المشروع من طرف أكثر من 200 مساهما، أغلبهم من الجالية المغربية بالخارج، عبر تحويلات مالية مباشرة إلى الحساب البنكي لجمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي الصحة بوجدة، بمبالغ تراوحت بين 25 و38 مليون سنتيم لكل مساهم، ليصل مجموع التمويلات إلى ما يقارب 6 مليارات سنتيم، دون أن يُشترط عليهم الانخراط في الجمعية، أو اطلاعهم على نظامها الأساسي، أو القانون الداخلي للمشروع، حيث كانت الجمعية آنذاك تقوم بدور الوسيط في إطلاق المشروع، وليست المالك له بالمعنى القانوني، أو مفوضة بتمثيل الممولين الذين اقتصرت علاقتهم بها على طابع مالي بحت، دون أي علاقة تنظيمية أو عضوية، ورغم ضخامة هذه التمويلات، عمدت الجمعية إلى تهميشهم رافضة الاعتراف بأي صفة تمثيلية تجسد مساهماتهم الجوهرية.

وفي بداية واعدة وتحوّل مريب، انطلقت فكرة مشروع “الفارابي” على أساس تمكين المنخرطين من بقع أرضية للبناء، وتم فعلاً اقتناء الوعاء العقاري سنة 2005 بمساحة تفوق 5,3 هكتارات، غير أن المشروع اتخذ منعطفاً جذرياً سنة 2014، حين قررت الجمعية، بشكل أحادي، تحويل الاتفاق إلى إقامة سكنية تضم 210 شقة، في خطوة لم تكن عفوية، ولا لصالح المنخرطين، بل كان نتيجة توجّه مدروس تحكمه خلفيات تجارية صرفة. فقد بدأت الجمعية منذ المراحل الأولى فيما وصف ب “التحايل” على الممولين، ليس فقط بهدف الاتجار في الشقق، بل أيضاً من خلال عزل أزيد من 7500 متر مربع من الوعاء العقاري، موزعة بين قطع مخصصة للفيلات، وأخرى للبناء العمودي R+3، في مواقع استراتيجية، تمهيداً لتفويتها لاحقاً لأطراف خارجية لا علاقة لها بالمشروع،وأو بمصالح المساهمين. كل ذلك تم في غياب تام لأية جموع عامة، ودون تقديم تقارير مالية منذ أكثر من عقدين من الزمن، مما يثير الشكوك حول النفقات التي لم يتم توضيحها أو تبريرها، ولم يتم إشراك المنخرطين في أي استشارات أو توضيح لما يجري، في انتهاك صارخ لأبسط قواعد الشفافية، والإدارة التشاركية التي يفترض أن تحكم مشاريع ذات طابع اجتماعي.

وهكذا نصّبت الرئيسة وأمين المال، المتابعان قضائياً بتهم النصب وخيانة الأمانة، نفسيهما كمالكين فعليين للعقار، وشرعا في تدبيره بشكل أحادي، وبمنطق تجاري مغلق، رغم أن رئيسة الجمعية، ليست مساهمة في المشروع مالياً، منحت نفسها حق التسيير الكامل بمجرد انخراط شكلي في الجمعية، وظلت متشبثة بإدارته، رغم الأزمات التي يتخبط فيها، وفي المقابل، يُقصى المساهمون الفعليون، الذين تحملوا التكاليف المالية، بدعوى عدم عضويتهم في الجمعية، الشيء الذي يعد منطقا معكوسا يفضح محاولة ممنهجة لإقصاء الممولين الحقيقيين من كل صفة، وتحويل المشروع إلى ملكية مغلقة تدُار بمنأى عن أي رقابة أو شفافية.

وفي خطوة حاسمة نحو الانهيار، فقدت الجمعية المعنية مبرّر وجودها الأصلي بعد إحداث مؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية لموظفي الصحة كمؤسسة رسمية بديلة، كما هو منصوص عليه في المادة الخامسة من نظامها الأساسي. وقد ترتب عن هذا الوضع إفراغ الجمعية من مقرها الإداري بموجب قرار صادر عن مديرية وزارة الصحة، واستقالة غالبية أعضاء مكتبها، تعبيرًا عن تنصّلهم من أي مسؤولية بشأن ما آلت إليه الأمور. بالإضافة إلى توقفها التام عن ممارسة أي نشاط اجتماعي، مما أفقدها الصفة القانونية والتمثيلية الفعلية، حتى في علاقتها بموظفي قطاع الصحة على المستوى المحلي بمدينة وجدة. وقد أدى هذا الوضع إلى خلق حالة تنظيمية وقانونية ملتبسة، وجعل الجمعية كياناً اسمياً يُستغل من قبِل أطراف لا يحملون أي صفة قانونية معترف بها، بعضهم متابع قضائياً بتهم تتعلق بالنصب وخيانة الأمانة، ومع ذلك يواصلون تقديم أنفسهم كمالكين حصريين للعقار ، مستندين إلى صفة جمعوية أصبحت منعدمة واقعاً وقانوناً، وذلك ليس بغرض ممارسة مهام اجتماعية كما يُفترض، بل لاستغلال هذه الصفة كإطار شكلي يمكّنهم من الاستمرار في التحكم في المشروع، رغم فقدانهم لكل مقومات الوجود القانوني والتمثيلي، وفي تغييب تام للممولين الفعليين الذين لا تربطهم بالجمعية أي علاقة تنظيمية أو مهنية. وهكذا انحرفت عن دورها الأصلي كجمعية ذات طابع اجتماعي، لتتبنى منطقاً تجارياً صرفاً.

وقد عبّر الممولون المباشرون لهذا المشروع، الذين قدموا ما يقارب 6 مليارات سنتيم، عن قلقهم الشديد من الفراغ التنظيمي الذي يكتنف المشروع، وغياب أي معلومات رسمية حول مقر وهوية الجهة التي تتولى فعلياً تدبيره، والتي تواصل حاليًا اتخاذ القرارات الإدارية بشأنه، ومما  زاد من هذا القلق بدء بعض الأطراف المرتبطة بالجهة السابقة المسيرة في اتخاذ خطوات انفرادية وغامضة، بهدف تنفيذ تسليم مؤقت مبكر للعقار بشكل استعجالي، دون إشراك الممولين أو توضيح بهذا الشأن وهو إجراء يبين عن محاولة مكشوفة لاستباق مخرجات النزاع القضائي القائم، عبر التعجيل بعملية التجزيء والتفويت المبكر لأكثر من نصف الوعاء العقاري، لفائدة المقاول وأطراف خارجية، مقابل ديون تناهز  1.5 مليار سنتيم لا تزال محل منازعة قضائية، باعتماد أساليب تفتقر لأي سند قانوني أو صفة تمثيلية مشروعة، مع تجاهل تام لوجود حجز تحفظي مسجّل لفائدة عدد من الممولين المتضررين بمبلغ  2.6 مليار سنتيم، وهو ما يُمثل مانعاً قانونياً صريحًا يحول دون أي تصرف في العقار، والامتناع عن إصدار أي ترخيص قد يُؤثرّ على وضعه القانوني. ويأتي ذلك في وقت يعاني فيه المشروع” من اختلالات تقنية جسيمة، حيث أنُجزت معظم الأشغال خارج الإطار المعتمد، ويشهد توقفاً تامًا منذ 2018، لم تسُتكمل منه سوى 30 شقة جزئياً، فيما بقيت 72 شقة في وضع هيكلي متدهور، ولم يُشرع في بناء 107 شقة متبقية.

إذ، ورغم التزام الأغلبية من المساهمين بتسديد المبالغ المتفق عليها، فوجئوا لاحقاً بمطالبتهم بمبالغ مالية إضافية قدرها 03 ملايين سنتيم، ليُفاجأوا مجددًا بطلب مماثل، حيث اعتبر العديد منهم ذلك شكلاً من أشكا ل الابتزاز المالي المتكرر. وبينما استجابت قلة على مضض، رفضت الأغلبية التجاوب، خاصة بعد أن أصبح واضحًا أن العجز المالي الكبير يُستغل كذريعة لمطالب تمويل إضافية متكررة لا سقف لها. ورغم

رغم توصل المقاول بـ60% من الكلفة الإجمالية، فإن نسبة الأشغال لا تعكس هذا التمويل، مع تراكم ضرائب فاقت المليونين درهم، ما فاقم الأعباء على المساهمين، وأبرز حجم الإهمال والتقصير الذي طبع مسار المشروع.

وفي خطوة أخرى مثيرة للجدل، قامت جمعية الأعمال الاجتماعية في سنة 2022 بفسخ تعاقدي مع المقاول المكلف بتنفيذ مشروع “الفارابي”، بموجب اتفاق وُصف بـ”الودي”، تم بموجبه إعفاء المقاول من جميع التزاماته المالية والتقنية، رغم استمرار وجود اختلالات جسيمة لم يتم تبريرها حتى اليوم، ويمثل هذا الفسخ مخالفة صريحة لبنود دفتر التحملات، دون الرجوع إلى الجهات التقنية المعتمدة، في محاولة واضحة لتأمين مخرج للمقاول يُعفيه من أي مسؤولية. علما أنه سبق أن تلقى أكثر من 4 مليارات سنتيم، دون إنجاز فعلي يبُرر هذا المبلغ، ليتحول من منفذ لأشغال متعثرة، إلى مالك فعلي لما يفوق نصف المشروع، وهو وضع يطرح تساؤلات جدية حول العلاقة التي ربطت الجمعية بهذا الطرف، ومدى مسؤوليتها في تمكينه من مكاسب عقارية لا سند لها، مما يعزز الشكوك بوجود تواطؤ و تسويات مالية واتفاقات غير معلنة تخُلّ بالالتزامات القانونية والتعاقدية.

من خلال ما سبق، يتضح أن الغاية الحقيقية من هذه المناورات، والإصرار على طلب التسليم المؤقت لا تتمثل في استكمال الأشغال، أو تمكين المستفيدين من شققهم، بل تهدف أساسًا إلى استكمال آلية مُعدّة سلفاً، مع صياغة وثائق مفصّلة على المقاس لإضفاء غطاء قانوني شكلي على هذه الخطة الممنهجة لتصفية الوعاء العقاري، وتفويته لأطراف بعينها.

و في ظل استمرار أزمات مشروع “الفارابي” السكني بمدينة السعيدية وغياب أي أفق للحوار، بادرت اغلبية المتضررين إلى تأسيس إطار قانوني موحد تحت اسم “جمعية المساهمين والمنخرطين المتضررين من المشروع السكني الفارابي”، بهدف الدفاع عن الحقوق المشروعة، خاصة لفائدة أفراد الجالية المغربية بالخارج غير القادرين على متابعة التطورات عن قرب . وبعد استنفاذ كافة المساعي الودية والإدارية، لم تجد جمعية المتضررين بُداً من اللجوء إلى القضاء كخيار أخير لفرض احترام الحقوق وكشف التجاوزات، حيث صدر الأمر القضائي عدد 607 بتاريخ 26 أبريل 2021 بإجراء خبرة محاسباتية كشفت عن اختلالات مالية جسيمة.

واستناًدًا إلى نتائج هذه الخبرة، تقدم المتضررون بشكاية رسمية إلى وكيل الملك تتعلق بالنصب والاحتيال وخيانة الأمانة، حيث أسفرت التحقيقات عن متابعة رئيسة الجمعية، وأمين المال، والمقاول المكلف بالإنجاز، بتهم ثقيلة تشمل النصب، وخيانة الأمانة، والتصرف غير المشروع في أموال مشاعة وغير قابلة للتفويت، وتمت إحالتهم على القضاء الزجري، مع تحديد الجلسة المقبلة في 16 يوليوز 2025،  في تطور قضائي يُعزز مطلب المتضررين الذين أصبحوا يمثلون أغلبية بمحاسبة المسؤولين عن إيصال المشروع إلى هذا الوضع الكارثي .

وهكذا، انقلبت جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي الصحة من كيان كان يُفترض أن يُجسّد روح التضامن والعمل الاجتماعي، إلى واجهة مستترة للعبث المالي الممنهج، في انحراف فاضح عن الأهداف التي أسُست من أجلها، وهو ما يجعل من المساءلة والمحاسبة ضرورة حتمية، خاصة وأن الجمعية أصبحت واقعًا وقانوناً، جسمًا فاقدًا للشرعية، في ظل غياب أي إطار قانوني أو مؤسساتي يبُرر استمرارها أو يضُفي المشروعية على تصرفاتها،

وختامًا، واستحضارًا للتوجيهات الملكية السامية، التي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس نصره الله يؤكد من خلالها على ضرورة صون حقوق ومصالح المغاربة المقيمين بالخارج، باعتبارهم مكوناً أساسياً من الأمة، وركيزة لتعزيز الروابط مع الوطن، حيث شدد جلالته مرارًا على أن حماية هذه الفئة مسؤولية وطنية مشتركة، تتطلب تعبئة شاملة لمختلف الفاعلين، من أجل ضمان امنهم المالي والعقاري داخل أرض الوطن، مؤكدا حفظه الله أن أي انتقاص من حقوق مغاربة العالم يُعد مساسًا بثقتهم في وطنهم، فقد بات من الضروري ترسيخ هذه الثقة، من خلال توفير الضمانات القانونية والمؤسساتية الكفيلة بحماية مصالحهم، وتشجيعهم على الإسهام في تنمية البلاد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

وجدة: ملتقى القرب للمشاركة المواطنة يعقد دورته الأولى وهذه أهم محطاته

عمر أعنان يثير معاناة المواطنين مع الخط السككي بين وجدة والدار البيضاء