بقلم: جمال حدادي
لصعود إلى الجبل، هذه العبارة التي تتردد في لسان المغاربة كأنها مثل من الأمثال، عند دعوة خصم أو غريم بأن يصعد للجبل، أن يركب الحصان الذي شاء، الجبل هذه الكتلة الحاضرة في الثقافات كبنية صلبة صامدة صابرة لا تحركها الأنواء ولا الأدواء، عندما يقترن اسم الجبل باسم موسى، النبي المذكور في كثير من الملل، صاحب العصا، المصير المثير بحمولة القداسة والمعجزة، طبعا هو عنوان رواية استلهم منها المخرج ادريس المريني فيلمه لتكون المنطلق من صنع مشهدية مستدرجة لمدة ساعة و نصف لا يحس بها المشاهد و هي تنصرم، لا تنقطع خيوط الحبكة لتستدرجك مشهدا بعد مشهد، البطل الذي يأتي من مكان بعيد إلى مكان بعيد، سنا من الضوء المنير مدرسا لمادة الفلسفة، يتسلل إلى بيت فيه بطلان، أرملة و “ابنها”، امرأة سوية و رجل مقعد، امرأة منغمسة منغرسة في الدين حتى النخاع، و مقعد بسبب حادثة جعلته يغير معتقداته بفضل ما يقرأ من كتب أثثت مرجعيته و جعلته يسائل كل شيء حوله، كل الحقائق التي ظنها ذات يوم حقيقة تتحول لسبب أو آخر شكا يحتاج إلي يقين، خاصة في مجتمع لا يسائل بل يقبل المظاهر، و يصنع الجنة في الدنيا قبل أن يصل إلى مصيره في الآخرة، مجتمع يحكم في الجميع على الجميع، و يقدس فيه من ينتمي لكتلة بشرية معينة وحيز مكاني مميز، كيف أتى إليه؟ الله أعلم، يحكم في الجميع على الجميع فيقدس ما شاء و يدنس ما شاء، ارتكازا على مرجعية لا يناقشها و لا يسائل نفسها هل يفهمها أم لا بل يبتلعهما هكذا دون هضم ولا يقبل من يدنس المقدس، ولا يتوافق مع من يقدس المدنس، بتفكير جمعي جماعي لا يقبل خروج الفرد منها ويعده متمردا متجردا.
وتكون العزلة الاختيار، اختيار الضمير، وتأنيب الذات، وعقابها، قرار فردي قصد تحقيق المصالحة، في انتظار العودة إلى الأصل، أصل الأشياء بالصعود إلى قمة القمم، أحيانا برفقة صادقة صديقة، تقبل الآخر كما هو، تشاطره كل شيء، تشاركه كل شيء، توفر له فرصة المصالحة في الخروج من الصمت إلى المونولوغ إلى الحوار الثنائي المسائل، الممحص للقضايا، المستفز، المستميل، المتمرد، الثائر، الصامد، و الصابر.
تبدأ القصة من السفح لتنتهي في القمة، قمة الجبل، جبل موسى، سمفونيات الصمت ترافق المشاهد كلها، موج، رعد، زمهرير مطر، خطوات، دقات قلب، ثم حسيس أقدام خادعة، وقرع بقارورات منكسرة جارحة، تدمي البواطن كما تدمي بالجروح الجوارح، مع سمفونيات موسيقى هادئة تتسلل إلى الروح قبل الأذن لترافق سحر الصورة المستدرجة الباحثة في الوجوه عن الوجدان، الوجوه الخادعة أحيانا حين يتأول المشاهد تأويلات نمطية لم يقصدها المخرج ولا الممثلات ولا الممثلون ولكن هي تأويلات خاطئة لا توجد سوى في مخيلة المشاهد و نمطية أحكامه على المظاهر و عدم انتظار الحقيقة تستجلي، حتى يصل للجينيريك، ليجد قصيدة تجيبه عن كل شيء و تلقنه درس الحياة، بعبارات في أبيات، لتكون فلسفة الحياة، الدرس الذي يجب أن نستوعبه من فرجة السينما، حين نشاهد فيلما كجبل موسى، بانسيابية الصورة وتسلل الشخوص لأبطالها الذين لايمكن أن تمنح البطولة لأحدهم، كلهم يؤدي دوره بإتقان وإحسان، كأنه في رقعة الشطرنج، حتى حين تكون قطعة مائلة تقومها الأخرى، كما في مشهد من مشاهد الفيلم، حتى المخرج اختار البطولة حين أرغمك على الاعتراف بهذا الإتقان والإحسان، حين أخذ بيدك ولم تتركها أنت حتى النهاية، اختيارا و ليس اضطرارا، رغم خداعه إياك كما في لقطة قطع الأوداج للبطل والتي لم تكن سوى كابوسا، ما فتئ أن انجلى وانصرف لأنه ليس سوى حلم، لتأتي اليقظة لتخرج المشاهد من مركز الخلايا النائمة التي توجد في خوالجه كي يسائل كل شيء و أي شيء، و يتفلسف في الحياة، و من سفح النمطية إلى قمة الارتفاع و الترفع، يختار له السمو والسماوات في هذه القوة التي ليست كأي قوة، القوة التي تجعلك تحب الحياة و تحيى الحب، و تصير في ذلك الإحساس الذي يردده الفرنسيون :”être au septième ciel “.
