آلمتني تدوينة انتشرت على مواقع التراسل الفوري لأحد الوداديين المنحدر من مكناس الذي أراد الدفاع عن حركاس بأسلوب لا يرقى لا إلى الوطنية ولا إلى الأخلاق المغربية، ولا حتى إلى اللياقة التي تكون مطلوبة في جدال المخالفين في العقيدة والدين، لقد تطاول هذا المتهور على مدينة بتاريخها ورجالها وتضحياتها عندما أكد انه لو كان بيده الأمر لباع وجدة بسكانها للجزائر بثمن بخس، ولقد قيل في وقت مضى إذا أردت أن تعرف شعبا فابحث في قضاياه، والقضايا هنا تعنى اهتماماته وثقافته وفكره.. وكانت هذه الأشياء تظهر سابقا في كتاب أو صحيفة أو رأى كاتب أو مفكر أو نشاط مؤسسة واليوم باتت هذه القضايا تبرزها تدوينات على مواقع التواصل، وإذا حاولنا الآن أن نطبق هذه القاعدة على أحوالنا وما ينشر في هذه الفضاءات فسوف نكتشف أن زماننا تضاءل كثيرا.. في أيام زمان كانت قضايا تنمية الوطن والهوية وتحرير الأرض والبشر وقضايا الحريات والديمقراطية والأحزاب الحقيقية هي المهيمنة.. وكانت الفنون تعكس ذلك كله والفكر بكل رصيده ومعاركه ومدارسه.. كان الكبار يختلفون في الآراء والمواقف ولكن بنزاهة وعلم وترفع وكان الفنانون يبدعون كل على طريقته وأسلوبه وكانت صراعات السياسة قائمة ولكن بوعي وانتماء ووطنية.. وكانت سمعة الوطن وتاريخه وثوابته خطوطا حمراء لا تجاوز فيها ولا تشويه.. وكان هناك ضمير عام يحكم سلوكيات المجتمع ابتداء بالخلافات في الآراء والمواقف وانتهاء بما يقال في وسائل الإعلام، وكان الضمير العام يحكم كل شيء لأنه يتجرد من كل نوازع المصالح والغايات.. كانت المعارك تدور على صفحات الجرائد ولكنها معارك أفكار وليست صراعا على صفقة أو حائط فيسبوكي أو أبواقا لجهات مغامرة.. وكان للترفع في السلوك والأخلاق فرسان يعرفهم الناس وكان للأقزام والمشوهين فكريا وسلوكيا أماكن تشبه بيوت السوء التي يرتادها المشوهون من البشر.. كانت الحياة بهذا الوضوح في كل شيء ولم تكن الأقنعة قادرة على إخفاء الحقائق.. والآن حاول أن تتابع مواكب الأمور حولك سوف تكتشف أننا نعيش زمانا غريبا فلا فرق بين تنمية الأوطان وجهاته وبين تكريس تخلفها.. ولا فرق بين الفساد السياسي والفساد الرياضي إلا في حالات نادرة والشاذ لا حكم له.. ولا فرق بين مؤثر دخل مزابل التاريخ ومؤثر آخر كان تاجا للعدل والكرامة والحرية.. لقد اختلت موازين الأشياء والبشر والأخلاق في عالم فقد كل القيم النبيلة وأصبح وكرا واسعا للأفاقين والمحتالين وتجار الفرص.
إن ما نشره هذا المحسوب على جماهير الوداد البيضاوي ينبغي أن لا يمر بسلام لأنه لامس قضايا تمس في العمق الوحدة الترابية للمملكة وعبر عن استخفاف كبير لتاريخ هذه المدينة التي كان الفضل لسكانها لوقف المد التركي، وكان لها الفضل في تأخير دخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب، ومنها انطلقت الشرارة الأولى لثورة الملك والشعب بأربعة أيام قبل اندلاعها في باقي التراب المغربي، ولكن مع ذلك ظلت مدينة وجدة خارج الاهتمام الحقيقي مما كرس وضعا تنمويا واقتصاديا شجع مثل هذه الأصوات النشاز بالنظر إليها بنظرة دونية، وللأسف فإن هذا النكران للجميل لم يكن وليد اليوم بل ظل لصيقا بوجدة منذ زمن بعيد.
لقد شكلت مدينة وجدة منذ نشأتها، حالة غير عادية من حيث الأحداث التي لاحقتها. حيث كانت دوما محط صراع مثير، وتتأثر بالتغيرات السياسية حتى أطلق عليها مدينة الحيرة. وفي كثير من المناسبات، تشير الشواهد التاريخية إلى النكبات والمنافسات والصراع والنهب الذي تعرضت له هذه المدينة كما تشير إلى الحروب المتتالية التي توالت على هذه المنطقة والتي بلغت من العنف والتخريب حتى كادت أن تمحوها من الخريطة.
وعندما تكلم أبو القاسم الزياني مؤرخ الدولة العلوية خلال القرن 18 عن ولاية وجدة، صاحبها بالنكبة التي وقع فيها عندما كلفه المولى سليمان بولاية المدينة التي قال عنها: “هي في حيز الإهمال، وأزعجني لها من غير إمهال، فاستغفيته فلم يقبل كلامي، واسترحمته فلم يرحم ذمامي، وخرجت لها في طالع نحس كدر.. فجاءنا العرب من كل حدب ينسلون ووقع الحرب، فانهزم من معنا من العسكر هاربون فنهب العرب ما عندنا من صامت وناطق وصاهل وناهق”
ولعله من الصدف العجيبة أن صاحب التدوينة الخبيثة يتقاسم مع أبي القاسم الزياني أنهما معا قدما إلى وجدة من مكناس، فالأول جاءها واليا من مكناس وطلب من السلطان إعفاءه والثاني مستخدما بإحدى الصيدليات وناشط فيسبوكي قدم اعتذاره إلى الوجديين بعدما حذف التدوينة التي أدخلته في متاهات لا يعلم عواقبها إلا الله.
إذا كانت وجدة قد وصفت بالحيرة والنحس وتتميز ببعدها عن المركز وتعاني ألوانا من سوء التنمية فإن أرحام نسائها لن تتوقف عن إنجاب الرجال الذين يبقون أوفياء لوطنهم.