جواد مرزوق
عندما حصلت على “إشراقات” الجنيدي في ربيع 2016، كنت أخالني امتلكت ديوان شعر متميز، لكن تبين لي بعد قراءات متعددة أنني ظفرت بكنز مرصود تتطلب مقاربته دربة على فك طلاسم الدال والمدلول، وقدرة على الغوص في مجاهل لغة عاهلة المسالك تمتح من نهج شيخ الصوفية الجنيد السالك، الذي يرى شاعرنا في عباءته زاوية أمن وسلام “من دخلها فهو آمن”، إنه فكر الجنيد الذي يطهر ويصفي القلب فلا يصدر عنه إلا الجلال والجمال. وبهذا يصرح عز الدين “في مقام النسيان” :
لن أخلف للريح جهة إذ تتقادفني مناسك الجنيد السالك ..
قلبي ما باع ولا اشترى ولا أدرك وهم أرباح ..
وحدها كوة الروح تنطق بما نظمت ونهشه النسيان..
اي ورب المتون كم أنسى ما كتبت ليرضى عني الأميون.
كنت قرأت الإشراقات مرات حتى جعلتها وردا أجدد فيه ظمأ المتون، وتأتي العودة إليه هاته المرة مقترنة من جهة باليوم العالمي للغة العربية، وبكوني من جهة أخرى، ظفرت بكنز آخر من كنوز الجنيدي موسوم بِ “مقامات حروفية ـ خلطة عشق”، وهذا العنوان يتجاوز وظيفة العتبة ليتبوأ درجة أعلى من الدلالة والتعاقد والتركيز المتعارف عليه، لأن المصطلح هنا يخرج من جيوب الصوفية مباشرة للدلالة على سياحة طويلة لمبدعنا، وسفر مُضْنٍ بين المقامات السبع، بدءا من مقام “التوبة” إلى مقام “الرضا”.. ولكُم أن تتخيلوا وعتاء هاته الرحلة مذ تاب مبدعنا إلى الفن في أجل تجلياته إلى أن وصل إلى مقام الرضا، فكان ميلاد “مقامات حروفية”.
ومقامات الجنيدي ليست أحوالا سائرة، أو أفكارا نافرة، أو مسالك عابرة، بل هي ركائز بياض من سواد الحِبْر، وأوراد اتِّعاضٍ من دلائل الحَبْر… .فعند الصوفية أن “الحال معنى يَرِد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب.. فالأحوال عندهم مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات ببذل المجهود”.
وشاعرنا المبدع المتعدد عاشق صب تُيِّـمَ بالحرف والشكل والوتر، وجاهد لسنوات، فكانت خلطة العشق تلك، كما أنه احترق بأسئلة الوجود وقلق الأجوبة، فجاءت تراتيله سامية المبنى عاهلة المعنى، لا يجليها إلا صفي أو نبي قد أيقن أن أهمية عبورنا في مضمار الحياة إنما تقاس بما نخلفه من أثر ليس إلا. يقول:
هكذا تهمس لي الأوهام
هكذا يخنقني ضجر السؤال
الموشح بقلق الأجوبة ترى من يبكيني إذ أخالني مت ومن يرثيني غير صرخة هذي الأقلام، وهذه لعمري صرخة في مقام بوح الشاعر الواعظ الذي يدعو باللون والحركة والحرف إلى ضرورة أن نسلك دروب الصحوة المفضية الى الحقيقة المطلقة القائلة: “كل امتدادات الحياة اختصار موغل في الموت”.
إن “مقامات حروفية” هي دعوة للحياة تصدح أن حي على الجمال، حي على الصفاء، حي على التشظي على صهوة البوح.. لكن البهار الناظم لهذا وذاك هو أن نعشق هاته المناقب، ونأخذ منها بكل المواهب، ونكرع في منهل التجارب.. لأن الإنسان ما خلق إلا لعمارة “الأمكنة / الأرض”، ولا قيمة له إلا إذا وقَّع امتداده وترك ظلا / بصمة على جدران الذكرى.. ولعل هذا ما ينادي به “مقام الامتداد”، إذ يقول:
وحدها التباسات الجمال تؤجج شظايا الأمكنة
من منافذ الضوء تبزغ شمس الحياة، وتولد الأحرف من جوف الاحتضار
مُد اليد رجاء، صيرها فرشة ما البأس
وارسم لذا الحرف ابتسامته الدائمة على حد الامتداد.
إنه امتداد في التاريخ وفي المكان يعيد إلينا صدى صوت الحكمة عند أهل الحق أو التصوف السني، ويجعلنا نقرأ مقامات الجنيدي كنقش على لوح المؤانسة، أو طغراء على بوابة المكاشفة، ولج إليها شاعرنا المبدع بإرهاص من صوت خفي، أو همس وفيٍّ لشيخنا السالك أبي القاسم الجنيد، مشفوعا بما وثق به وتَمَثَّلَهُ من فكر فلاسفة الغرب نحو ميشال فوكو وغيره.
وتتجلى “خلطة عشق” الجنيدي في أبهى حللها متلبسة بثوب اللوحات التي أبدعتها ريشته مانحة للخط العربي بسمو انحناءاته ورقصاته مساحات للضوء تجمع بين التأثيث والتعبير والنبش في الذاكرة الثقافية، ليكون لهذا الحرف حضور يوازي بل يفوق حضرة الشخصيات في سينوغرافيا السرد.. إنها لوحات تحكي صيرورة الإنسان من سفر التكوين إلى “مقام البوح”.
وعلى سبيل الختم أقول إنني وإن تهورت في ولوجي حقول عز الدين الجنيدي، فما بغير العشق كانت الغواية، وما بغير الحب دلفت من بوابة المقامات، فإن أصبت في بعض ما اسلفت، نلت شرف الحضرة، وإن كبا جوادي فأنتم أهل الكرم، وشفيعي في هاته السياحة أنني كَلِفٌ بمتون العزيز دوما، الأستاذ عز الدين الجنيدي، وأرى فيها ذاك الجب الذي لا يغيض مدده، والدوح السامق الذي يمتد ظله وعدده…
وتبقى “إشراقات” الجنيدي و “مقامات حروفية” بحر معانٍ في عمقه الدر كامن لا زلنا لم نَفِهِ حقه رغم الحبر الذي أريق حوله قراءة وتمحيصا وتحليلا، وستظل المقامات منجم فكر يجد فيه كل من الشاعر والرسام والعازف ضالتهم كمورد يمنح ذلك الانطباع الإستطيقي الذي لا يبلى ولا تؤثر فيه إشراقة أو أفول.