ادريس هابي
مضى على آخر جولة لي في أرجاء حديقة للا عائشة الفائقة الجمال أكثر من عقد من الزمان ،أما قبل ذلك أي في طور الشباب، وقبله في مرحلة المراهقة، فقد كنت مدمنا على التجوال في جنباتها في صحبة الخلان وأولاد الدرب… كانت جذابة لا يسأم المرء من السير في ممراتها، رغم شساعة المساحة، وتعدد المناطق، وكان أجمل ما يشد الزائر إليها الأشجار المختلفة الأنواع المتباينة الطول، وكذا أصناف النخيل ما يثمر منها، وما خلقه الله فقط للزينة وإمتاع الأبصار، وكذا دوحات فخمة غليظة الجذوعمنتشرة الفروع يرجع تاريخ غرسها إلى قرون عديدة انصرمت ما يجعلها عاصرت أجيالا متعددة من أهل مدينة وجدة.ولاتسأل عن البهجة والشعور باللذة الفائقة التي كانت تغمر قلوبنا ونحن نبصر أنواع الورود وأصناف الأزهار التي كانت مبثوثة في جهات الحديقة في تنسيق بديع وترتيب بلغ الغاية القصوى في الإبداع والدقة.
كانت حديقة للا عائشة لسكان مدينة وجدة جنة من جنان الله تعالى، خصهم بها في أرضه، وكان السكان في جذل غامر، وحبور دائم بهذه المنحة الربانية يشدون إليها الرحال كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وكلما سمحت لهم الظروف بذلك، وقد كانت شحيحة جدا بالقياس إلى ظروفنا الحالية، حيث وسائل التنقل متوفرة بكثرة ومتاحة في كل حين، وأذكر أن مدير مدرستنا آنذاك المرحوم مصطفى المشرفي كان يدبر لنا نقلة إليها كل أسبوع، نستمتع بهوائها الطلق النقي، وأشجارها الباسقة الذاهبة في الفضاء، وأزهارها المتنوعة الأشكال المتباينة الألوان، ذات الأريج الطيب والعطر الزكي، ولايخامرني ريب اليوم في أنه كان يتعمد ذلك تخفيفا لنا من أعباء الدراسة، وأتعاب التحصيل التي كانت تجثم على صدورنا أثناء الأسبوع، وذلك إدراك منه أن النفس والبدن معا في حاجة دائمة إلى الترويح كيما يكون للعمل ثمار، وللجد والاجتهاد محصول.
توجهت إليها في أحد أيام هذا الأسبوع، يحدوني شوق كبير إليها، وحنين مفرط إلى تلك الأيام الغابرة التي كنا ننفق بعض ساعاتها في السير في ممراتها، والتحديق في أحواضها المخضرة، كأنها بسط من أنفس الصوف، أبدعتها أنامل حازت حظا وافرا من المهارة والإتقان، والاستمتاع بالنظر إلى ما خلق الله على أديمها من أشجار وأزهار أبدع الإنسان في تنسيقها، وجعلها آيات من آيات الله تعالى، وكم كان سروري كبيرا عندما ألفيتها تحفة تسر الناظرين، جذابة تشيع البهجة والحبور في النفس، وتبعث الانتعاش والحيوية في القلوب، ولفت نظري خاصة النظافة الشاملة التي حرص القائمون عليها من مسؤولين وعملة على أن تكون أولى أولوياتهم، وسابق ما يفكرون فيه ويخططون له كما سرني أن الزوار كثر رجال ونساء وأطفال، وجميعهم ملتزمون بتعاليم الحراس ويتعاملون مع مكونات الحديقة بوعي محمود.
حقا، إن حديقة للا عائشة الآن منتزه بديع يشرف المدينة، ويحق لها أن تفخر به، وهنيئا للساكنة بهذه التحفة الرائعة التي هي كما أسلفت هبة من الله تعالى، وأهيب بالوجديين في مقابل ذلك أن يحافظوا عليها حفاظهم على أعز ممتلكاتهم.
والآن أمر إلى بيت القصيد من هذا المقال، وهو دعوة أرفعها إلى المسؤولين عن المدينة عامة وحديقة للا عائشة، خاصة أن يشيدوا عند مدخلها الرئيسي لوحة من رخام بديع، يودعونها تاريخ الإنشاء والخلق لهذه اللؤلؤة المتألقة، وكذا الاسم الشخصي للمهندس المبدع، وحبذا لويولون عناية خاصة لتلك الدوحات الجميلات جدا، التي عاصرت أجيالا من سكان مدينة وجدة بما عاشته من قرون، ويثبتون على مقربة منها على لوحات ذات صلابة ومتانة اسم نوعها والجنس الذي تنتمي إليه، وعمرها الطويل الذي يسهل عليهم أن يحددوه، بالالتجاء إلى الأساتذة الباحثين، ولن يعدموهم إذا طرقوا أبواب الجامعة بوجدة، .فإن الزائرين سوف يسعدهم ذلك أيما إسعاد.