بقلم: عبد المنعم سبعي
كثيرا ما كان يشدني عنوان الفيلم المغربي “فوق الدار البيضاء، الملائكة لا تحلق ” وكنت كلما مر أمامي هذا العنوان إلا وتساءلت في قرارة نفسي هل فوق وجدة، الملائكة تحلق؟ وهذا الإسقاط لأثر عمل فني تعامل مخرجه وتقنيوه مع وقائع خاصة، ليس إلا نتيجة لوصول رسالة المبدع إلى المتلقي. لا أحاول من خلال هذه المقالة أن أقوم بعمل نقدي لعمل فني، فلهذا أهله ومحترفوه الذين لا اعتبر نفسي مؤهلا لأن أكون عضوا في ناديهم، ولكن السينما كباقي الفنون لا تتوجه إلى النقاد وحدهم، وإلا لكان الفن عبارة عن زاوية مخصصة للمريدين فقط، لهذا كنت دائم التفكير في العلاقة التي تربط الفن بالآلام والآمال، ففي مجال يشتغل الفنانون على الجمال غالبا ما تكون روائعه مستلهمة من المعاناة والآلام، وأحيانا تجبرنا الأعمال الفنية على الوقوف أمام المرآة لنكشف عن عللنا الداخلية التي نتجاهلها باستمرار، وفي عمل المخرج العسلي جزء من هذه التأملات، فحتى وإن كانت نهاية الفيلم هي عبارة عن موت الحلم فإن الرسالة التي نستخلصها من هذا العمل السينمائي هو أن موت الأحلام ليست استسلاما لليأس ولكنه استنهاض للضمائر النائمة كي تستيقظ وتتبصر لعلها تلمح لقطة من لقطات الحياة التي تسعدها. فلنترك السينما التي صيرت آلامنا جمالا وفنا راقيا، ولنفتش في كومة آلامنا التنموية وقضايانا المجالية لنطرح السؤال من جديد: هل فوق وجدة الملائكة تحلق؟
بالتأكيد نحن نعيش اليوم في مدينة وجدة بداية مرحلة جديدة بعد تعيين وال جديد الذي تبدو من خلال تدخلاته واجتماعاته الأولية وآرائه أن ثمة نوايا إصلاح الأعطاب ومحاولة تجاوز المعيقات التنموية، قد ترخي بظلالها على مستقبل المدينة الألفية، ونعيش أيضا مرحلة جديدة بعد مرور دورة أكتوبرببلدية وجدة بكل الذي شاع عنها، وما صاحبها من ترهل الأغلبية وانقسامها، غداة كومة من الإحباط واليأس بسبب الوضعية الشاذة التي كانت تعيشها الجماعة الحضرية لوجدة، كان الامتناع عن التصويت لدورات متعددة، وكان لكل فريق قراءته وقناعته بل وحساباته، وهو ما أفرز وضعا انعكس سلبا على الواقع العام الذي تعيشه عاصمة الشرق و الذي لا يختلف اثنان على تفاقمه بشكل مقلق للغاية خلال السنوات المنصرمة، بسبب تفشي العديد من مظاهر التسيب والفوضى التي لم تعد خافية على أحد، واقع كان من أبرز مظاهره الاحتلال الصارخ للملك العمومي، وتردي الخدمات من إنارة عمومية وترهل البنيات التحتية، وطغيان الطابع البدوي على أغلب مرافق المدينة، إنها نتيجة حتمية لغياب حب حقيقي للمدينة وانتفاء العشق الخاص لمجالها وبيئتها من أجندة الكثير ممن إئتمنهم الوجديون على مصالح شؤون مدينتهم.
صحيح أن مظاهر الفوضى والبداوة لم تكن وليدة هذا المجلس الذي انقضى من عمره ثلاث سنوات، بل هذه المظاهر ظلت عنوان المدينة لحوالي عقد من الزمن، بسبب غياب الجدية من طرف مؤسسة الوالي في اتخاذ القرارات السليمة وإصدار التوجيهات المناسبة كما عهدناها في محطات سابقة على عهد ولاة سابقين، الأمر الذي فوت على المدينة مجموعة من فرص التنمية المحلية، فارتفعت نسبة البطالة في صفوف الشباب وكسدت التجارة في الأسواق وساد الظلام بالشوارع واستأسدت الفوضى بالملك العام وطغى الترهل على الخدمات، وفكر الجميع في الرحيل إلى وجهة أخرى إذ لا يخلو زقاق ولا حي دون أن تجد لافتات منزل للبيع تؤثث واجهات المباني السكنية والتجارية، إنها صورة إفلاس مدينة تحتاج لتجاوزها وخزة ضمير وغيرة وجدية، ولا نشك في أن السيد لهبيل الوالي الجديد سيكون أهلا لهذه المهمة الصعبة.
لا بأس فنحن من أول لحظة مع الإصلاحات وأهدافها، نحن مع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، نحن مع قضاء مصالح المواطنين في وقتها المطلوب، نحن مع المحاسبة والمكاشفة بعيدا عن أي ديماغوجية، لكننا لسنا ولن نكون مع سارقي الفرح أو الهباشين الأفاكين الذين يغيرون المبادئ والمواقف كما يغيرون جوارب أحذيتهم، لسنا ولن نكون مع المنتخبين الذين ألفوا التوقيع على التراخيص والامتيازات بالمقابل، لسنا ولن نكون مع النواب الذين ينتقون الشركات حسب المصالح الشخصية والعائلية لتفويت الصفقات، لسنا ولن نكون مع من يستثمرون فقر الفقراء والضعفاء لمنافع انتخابية وحزبية، ففي ذلك كله إفراغ للمرحلة من محتواها.
إن هدف الجماعات المحلية في الدنيا هي الرفع من مستوى تدبير الشأن المحلي، هي خلق الحلول حيث لا توجد الحلول، هي تحويل المستحيل إلى ممكن، هي هزم الواقع العنيد، هي التحايل على الواقع لخدمة المواطن، لا التحايل على المواطن لخدمة الأنا. أما هدف جل المنتخبين عندنا هي تجنيد الخبرة والكفاءة والتاريخ والمستقبل لبناء مجد وهمي وتشييد منافع زائلة. ونعود مرة أخرى لطرح تساؤلنا هل فوق وجدة تحلق الملائكة؟
الغريب أن من كنا نعتقدهم قادرين على لعب أدوار متميزة في هذه المحطة قد تنكبوا الطريق الصحيح، وزهد جلهم في السياسة الحقيقية، إنهم الطبقة المثقفة وتليها جمعيات المجتمع المدني، التي تحول بعض رؤسائها إلى ضارب الدف ونافخ المزمار يباركون خطوات الزعيم أو الحالم بالزعامة، ولا يبحثون سوى عن استفادة أو حظوة أو علاقة مرحلية، والبعض الآخر تفاجأ من حجم التعفن الذي أصاب جسم جماعاتنا المنتخبة فهجر كل عمل سياسي ونأى بنفسه عن مجال يخاله مجالا للكذب والنفاق لا غير، فخطاب المجتمع المدني الذي ما زال ملتصقا بالعمل السياسي والحزبي لم يتغير فيه أي شيء، فالعقلية واحدة، المدح والتبرير طريقة ناجحة للوصول إلى الاستفادات الشخصية، والعقلية الناقدة التي تبين عظم المسافة بين القول والعمل قد غابت من خطاب المثقفين، كما غابت العقلية المستقلة ذات الصلة بمصالح الناس للدفاع عنها، خطابهم في واد والمواطنون في أودية أخرى. ولعل أبسط حق من حقوق هؤلاء الذين يؤدون وحدهم ضرائب الخيبات والأخطاء هو أن نصارحهم، فقد أنهكتهم تجارب الفقر والتشرد، والمرض والتهميش والبطالة، وحالات الرشاوي والفساد واقتصاد الريع، فليس أخطر من الفقر سوى الاستبلاد.
هل تحلق الملائكة فوق مدينة وجدة؟ طبعا لا وألف لا، ولكن لكي تحلق لا بد أن تتغير ملايين الأشياء وأولى هذه الأشياء ينبغي أن تنطلق من خدمات المجالس المنتخبة، في انتظار أن ينتبه محترفو الخطب الكبيرة إلى أن الشياطين لا يصنعون السعادة، وأن البؤساء لن يكفوا عن انتظار الملائكة جيلا بعد جيل.