ذ. عبد المجيد طعام
صادرت فرنسا في زمن استعمار، أراضي الفلاحين وهجرتهم نحو المدن الكبرى، ليتحولوا إلى وقود للآلة الرأسمالية الاستعمارية، ولتحقق أهدافها كدست المغاربة في أحياء هامشية لا تتوفر فيها أدنى وسائل العيش، عاشوا سنوات عديدة داخل بيوت قزديرية ب” الكاريانات”، أشهرها على الإطلاق كاريان سنطرال بالدار البيضاء.
كان كريان سنطرال عبارة عن خزان لليد العاملة التي أنعشت الاقتصاد الرأسمالي الفرنسي، وكان موضع تجمع الفقراء من كل المناطق البدوية المحيطة بالدار البيضاء، وتحت رعاية المقيم العام ليوطي ستهتم فرنسا بصناعة الفقر.
كان القمع شديدا والفقر مؤذيا، لكن الكاريان لعب دورا خطيرا، بداخله وبين سكانه الفقراء تكونت الخلايا السياسية الأولى التي سيكون عليها مقاومة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال.
ونحن نلج العقد السابع من زمن الاستقلال، لم يختف الفقر، بل زاد انتشارا وحدة ومس الطبقة المتوسطة. فلماذا استمر الفقر في زمن الاستقلال؟ لماذا لم يرحل مع رحيل المستعمر الفرنسي؟
عرفت وكالة الإعلام الفلسطينية الفقر بما يلي: “إنه عدم القدرة على الحفاظ على المستوى الأدنى من المعيشة، وغياب الحد الأدنى من الدخل أو الموارد لتلبية الحاجات الأساسية، ويشير إلى وضع يتسم بالحرمان من موارد أو قدرات تعتبر ضرورية، لحياة بشرية كريمة. يفترض مفهوم الفقر وجود حد أدنى من الاستهلاك والدخل يقاس عليه مستوى معيشة الفرد يسمى خط الفقر، ويختلف خط الفقر من مجتمع لآخر، كما يتغير داخل المجتمع وفقاً للتغيرات التي تدخل على بنية المجتمع وطاقته الإنتاجية ومستواه التكنولوجي”.
حينما نطرح إشكالية الفقر، تتقاطع وتختلف زوايا النظر حسب اختلاف المرجعيات الفكرية، رجل الدين يرى فيه قدرا إلاهيا وابتلاء، والماركسي يرى أنه ينتج عن العلاقات الاجتماعية القائمة على الاستغلال، وهناك فئات عريضة ترى أنه اختيار ولم يفرض على أي أحد.
في الحقيقة إن الحديث عن إشكالية الفقر أعمق بكثير مما سبق ذكره، فحينما يكون الفرد يعيش حالة العوز الشديد، يصعب التكهن بردود الأفعال، بل يصعب التحقق من الموقف الذي يتخذه أي فرد إزاء الوضعيات الاجتماعية التي يعيشها، ذلك أن الدماغ أثناء أي رد فعل يعمل بنظامين مختلفين، الأول هو ما يسمى “البديهة”، وهو نمط تفكير لا يحتاج إلى بذل جهد، يحدث آليا، ويعبر عن سذاجة، كما يبتعد عن العقلانية وآلياتها. أما النظام الثاني فهو نظام تفكير بطيء، نتحكم فيه، يحتاج إلى بذل جهد عقلي، يقوم على تحليل المواقف لفهمها وإعادة تركيبها .
لنعرف سبب فشل أو نجاح اختياراتنا يجب أن نقر بوجود حدود بين نظامي التفكير السابقين، لكن ونحن نعيش زمن الاضطرابات النفسية والانتشار الواسع لثقافة التفاهة، انهارت قدرتنا على العمل بنظام التفكير البطيء ذي التوجه العقلاني، وأصبحنا نميل إلى البديهة الساذجة حتى نتجنب آلام التفكير، وقد اشتركنا في هذه الحالة مع العامة والأميين، أصبحت اهتمامات المتعلمين هي نفس اهتمامات غير المتعلمين، بل قد نجدهم يتقاسمون هذه الاهتمامات الضحلة على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن فشلنا في اختيار نظام التفكير العقلاني تتحكم فيه حالة الفقر الشديد التي يعيشها المجتمع، إنه فقر شمولي أصاب قدرتنا على التفكير وعلى الإنتاج اللغوي، وهكذا أصبحنا نميل إلى التفكير عن طريق البديهة غير المتعب. كما اتجه فقراؤنا نحو تغليب البدائل الجاهزة السهلة، فيصبح الاعتقاد بأن الفقر ما هو إلا أسلوب حياة يختاره الفرد، ولا علاقة له بالبناء الهرمي للمجتمع.
هذا المفهوم يروج له أهل السياسة ويستثمرون فيه طاقة كبيرة من التفكير والبلورة والتمرير، لينتشر بين كل فئات المجتمع، وهكذا ستجعل النخبة الحاكمة من الفقر صناعة، تساهم في إعادة إنتاج نفس المجتمع المختل التوازن، والخطير في الأمر أن هذا الاختلال يقدم على أنه هو العدل الحقيقي، وهذا ما سيقتنع به الفقراء أنفسهم الذين يصرون على أن فقرهم تتحقق فيه العدالة المطلقة، بما أن الإرادة الإلهية هي التي اختارت هذه الفئة لتكون غنية، واختارت الفئة الأخرى لتكون فقيرة، وما الفقر إلا ابتلاء، والله يحب الفقراء أكثر من الأغنياء، وهلم جرا من الوصفات التي تعمق الاختلالات الاجتماعية.
للفقر آثار جانبية خطيرة يؤدي إلى العوز المعرفي وفقدان على الأقل 13 نقطة في معدل الذكاء، ما سيفقد الفقراء ملكة التركيز والفهم والتحليل والنقد، فقد نجد أسرا معوزة تنجب الكثير من الأطفال يكونون في سن متقارب، رغم أن ولادة أي طفل سيجعل الأسرة تغوص في وحل المشاكل نتيجة شدة العوز، أما الأطفال فمصيرهم التشرد والضياع والجهل، وعليهم أن يخوضوا معارك يومية لضمان لقمة العيش، وقد حضر العقل الجمعي المتخلف الناتج عن الفقر الثقافي والفكري وصفات تبرر هذا السلوك غير السوي مثل “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهاَ”.
يصيب الفقر القوة العقلية، وينتج العجز الإدراكي، وهذا ما يؤدي إلى ارتكاب أفعال سلبية، تتراكم وتجعل من العجز أمرا مكتسبا، وتخلق الإحساس الدائم بالفشل وفقدان الثقة في الذات والمجتمع والسياسة. والعكس هو ما يحدث للأغنياء، ترتفع ثقتهم في مؤهلاتهم، وينشدون الاستحواذ على مناصب القرار والمسؤولية…
وجد الفقر في بلادنا قبل الاستقلال، واستمر بعد الاستقلال، بل زادت حدته وتوسعت رقعته، ولا زالت تتسع لتبتلع فئات من الموظفين الذين كانوا يعتبرون من الطبقة المتوسطة. مباشرة بعد الاستقلال لعب التعليم دورا مزدوجا من جانب اعتمد عليه النظام لتوفير الأطر والموظفين، ومن جانب آخر اعتمد عليه الفقراء ليكسبوا درجات في السلم الاجتماعي ويفروا من دائرة الفقر، لكن نسبة الحاصلين على امتيازات اجتماعية كانت قليلة. ولم يجد الآلاف من الجيل الأول المولود لزمن الآستقلال وظائف تأويهم.
تعاقبت الحكومات وبقي الفقر جاثما على النسبة الغالبة من المجتمع، وكان ولا زال المغرب يحتل المناصب الأخيرة في مؤشرات التنمية. تعمقت أزمة الفقر مع الحكومتين الأخيرتين بسبب الاختيارات غير الشعبية التي تخدم مصالح الرأسمالية المتوحشة، تمت إصابة القدرة الشرائية في مقتل، كما تم القضاء على صندوق المقاصة وحررت أثمان البنزين، و دفرض على من اختاروا التدريس نظام التعاقد…
كانت لجائحة كورونا انعكاسات خطيرة فضحت هشاشة البنيات التحتية في شتى المجالات، اتسعت دائرة الفقر، ولكن علينا أن نقر بوجود الفقر في مجتمعنا قبل الجائحة، إنه فقر بنيوي لم تنفع معه الروتوشات السطحية التي توظف للترويج السياسي أكثر من أنها تبرمج للتخفيف من أثر الفقر.
ما حدث في ظل هذه الجائحة يؤكد على فشل كل إصلاح أو مشروع تنموي جاءت به الحكومات المتوالية. الحلول التي قدمت لحد الآن مجرد ترقيع، لا يمس الظاهرة في عمقها، وهذا ما يدفعنا لنطرح التساؤلات التالية: هل توجد فعلا إرادة للقضاء على الفقر؟
في بلادنا الفقر ظاهرة مركبة، كل الاقتراحات التي طرحت للتخفيف من آثاره لا ترقى إلى مستوى المشاريع التنموية، بل هي مجرد إصلاحات سطحية تعاملت مع الفقر كحالة أنتجتها أسباب خارجة عن الاختيارات السياسية، مثلا الوقوف عند حدود الجفاف لتفسير انتشار الفقر والبطالة والهجرة القروية… طبعا لا يمكن إقصاء العوامل الطبيعية، غير أن أثاره تعمقت بسبب اختيارات الحكومات المتوالية.
لفهم الفقر الجاثم على مجتمعنا واتساع دائرته وجب النظر في طبيعته البنيوية المركبة التي تعكس العلاقات القائمة على الاستغلال، بين طبقة ذات أصول أرستقراطية وليس برجوازية واستحواذها على كل وسائل الإنتاج، وطبقة فقيرة واسعة لا تملك إلا جهدها البدني.
السياسة بالمفهوم النخبوي هي أداة الحفاظ على نفس العلاقات الاجتماعية، تعمل على إعادة إنتاج نفس البنيات الاجتماعية المترهلة، خاصة وأن النخب السياسية هي التي تتحكم في كل المؤسسات، كالبرلمان والمدرسة والإعلام والفضاء العام، وتجعل منها وسيلة فعالة لإعادة توزيع الأدوار وإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية، من هنا نرى أن فهم استمرار الفقر في بلادنا يتوقف على مدى قدرتنا على تفكيك بنياته بتفكيك بنية المجتمع، والوقوف على الآليات التي تتحكم فيه والميكانيزمات التي تحركه وإعادة تركيبه على أسس جديدة، تأخذ بعين الاعتبار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتنويع مصادر الثروة والتوزيع العادل لها، وحرية التفكير والتعبير، وإعادة النظر في موروثنا الثقافي والقيمي، الذي لم يعد صالحا لحاضرنا ومستقبلنا. وقد أكدت البرغماتية أن المعتقدات والأفكار التي لم تعد قادرة على أن تترجم إلى أفعال تنتج فائدة وجب التخلي عنها، وتبني أفكار جديدة تحقق درجة عالية من جدوى الوجود.
ما حدث في الانتخابات الأخيرة يفصح عن طبيعة العلاقة بين السياسة والفقر، ويؤكد على أن السياسيين ليسوا مستعدين للتخلي عن الفقر، وقد عرفنا سابقا بأن العوز لا يسمح للفقراء بأن تكون لهم اختيارات متعددة، لهم اختيار واحد هو إعادة إنتاج الفقر بكل بشاعته، لا يقومون بإعادة الإنتاج عن وعي وإدراك، لا يعرفون ما هو الفكر ولا العقل، علاقتهم بالسياسة هي علاقة براغماتية آلية ولحظية، يساهمون في تشكيل النخب الحاكمة، ويجدون أن الربح الذي يمكن أن يجنوه من السياسة هو الحصول على قفة مواد غذائية توفر لهم مؤونة أسبوع واحد، أو ورقة نقدية من فئة 200 درهم. ما يحدث بعد انتهاء الانتخابات لا يهمهم، هم على استعداد لانتظار خمس سنوات جديدة للحصول على قفة جديدة وورقة نقدية زرقاء اللون.
في الحقيقة كلنا نعمل ليستمر الفقر، كل واحد منا يربح شيئا من استمراره، لذا كل واحد من موقعه يساهم في صناعة الفقر. أصبح وعينا الجمعي هو الآلة الساهرة على إعادة إنتاج الفقر، وليس النخبة السياسية فقط، لماذا؟
نحن لسنا على استعداد لإعادة النظر في موروثنا.. نحن لسنا على استعداد للتخلي عن معتقدات تحولت إلى ثوابت مقدسة، نقف في وجه كل من تجرأ على نقد ثوابتنا، ورويدا رويدا تحولنا إلى حراس للفقر، نحن مع حكوماتنا وسياسينا نؤمن بأن الفقر عقاب رباني وابتلاء وامتحان. كنت قد قرأت في جريدة تابعة للبيجيدي أن بنكيران رئيس الحكومة السابق يرى أن الفقر انتشر لأننا ابتعدنا عن تعاليم الدين، نصف المعادلة الآخر يقول إذا عدنا إلى الدين سينتفي الفقر، ماذا سننتظر من هذا المسؤول؟ هل سننتظر منه أن يخطط برنامجا علميا لتقليص الفقر؟ لا أبدا، لا يستطيع. سننتظر أن يقدم لنا خطبا وعظية، فيها الكثير من الترهيب وقليل من الترغيب لنعود إلى الطريق المستقيم، يقتنع الفقير بفقره حين يعتبره ابتلاء، ويقتنع الغني بغناه ويعتبره هو الآخر ابتلاء، ولكن شتان بينهما.
النخبة السياسية غير مستعدة لمحاربة الفقر، لأنه آلية من آليات التحكم والسيادة، كما أن المجتمع ليس مستعدا ولا يقبل أن ينتفي الفقر من البلاد، إذا تم القضاء على الفقر ستختل القوانين الإلهية، ونحن لا نريد أن نغضب الله. مستعدون أن نتحمل الجوع على أن نغضب الإله أو الحاكم، ألا يمثل الحاكم ظل الله على الأرض؟ نحن نريد أن ندخل الجنة بذلك الدرهم الذي نتصدق به، إذا حاربنا الفقر وقضينا عليه ستندثر الصدقة، وبدون صدقة لا يمكن ان نحقق توازننا لأننا مذنبون، والذنوب تمحوها الصدقات، هذا ما استقر في أذهاننا…
الفقر يساهم في إعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية القائمة على الاستغلال، لذا تعتمد عليه النخبة السياسية كثيرا، وهي غير مستعدة لمحاربته، كما أنه يساهم في خلق توازن نفسي لدى أفراد المجتمع الذي أصبح يسير سيرا حثيثا نحو السلفية التقليدية الضحلة. من هنا نستنتج أن الفقر سيستمر، بل ينتظره مستقبل زاهر. بدون فقر لن نستطيع أن نبني أغلبية برلمانية ولن ننشئ الحكومة، الكل متواطئ ضد الكل، الأحزاب تخلت عن وظيفة التأطير، واستثمرت في الفقر لتستغله للحصول على كراسي برلمانية. ولا أحد ينكر أن الكثير من الأحزاب تعتمد على الإحسان لتكوين كتل ناخبة تنتظر خمس سنوات لتتسلم قفة الذل والمهانة. خلال الحملة الانتخابية الأخيرة ارتفعت أصوات هنا وهناك تندد بهذا السلوك المخل بقيم الكرامة الإنسانية.
المجتمع بنخبه السياسية وأحزابه وفقرائه متواطئ مع الفقر.. المجتمع بكامله يريد أن يستمر الفقر.. المجتمع بكامله يستثمر في الفقر…. لا يمكن أن نوقف نزيفه إلا إذا أعدنا النظر في مرجعياتنا وموروثنا الثقافي، ولن يتم ذلك إلا بالنهوض بالتعليم على أسس علمية عقلانية علمانية، وبإعادة صياغة أحزابنا لتصبح أحزابا مواطنة، ذات مرجعية فكرية جديدة متجددة، وذات برامج حداثية تعمل على تأطير الشعب. دون هذه الشروط لن يتغير أي شيء، سيستمر تواجد الفقر، وسيتحول إلى صناعة قائمة الذات.. صناعة توصل العامة عبر الوهم إلى الجنة، وتوصل النخبة السياسية عبر الانتهازية إلى كراسي المسؤولية.