بقلم ذ. عبد المجيد طعام
تم استبعاد “مول الفكر” عن كل الفضاءات العامة… استبعد عن الصحافة، عن السينما، عن دور الثقافة، عن السياسة وحتى عن المدرسة والجامعة أين أصبح حضور الفكر باهتا، وأين نسجل الغياب التام لقيم الفكر ومبادئه كالحرية، حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ومبدأ الاختلاف… في المقابل، تم دفع “مول الشكارة” إلى الواجهة في كل المجالات، وأصبح حاضرا بقوة في كل الفضاءات…
من أخطر الفضاءات التي احتلها مول الشكارة أذكر المدرسة والجامعة حيث أخضعها للمنطق التجاري، فأحدث هوة واسعة بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية، فتسبب في شرخ اجتماعي يصعب معالجته…
“مول الشكارة ” لم يترك فضاء لم يبسط يديه عليه، الفرجة، الصحة.. الخ… لكنه أدرك أن السيطرة على فضاء السياسة هو مفتاح النفوذ والهيمنة على كل الوطن وتحويله إلى مجرد مقاولة يجني منها الأموال والامتيازات…
لا يمكن ل “مول الشكارة “أن يهيمن سياسيا إلا عن طريق انخراطه في الحزب. الحزب ذاته أدرك بواسطة براغماتيته أن مستقبله رهين باستقطاب “مول الشكارة”.
وهكذا ستعمل الأحزاب على إقصاء “مول الفكر” أو طرده نهائيا ليحل محله “مول الشكارة”! هذه الممارسة شائعة في كل الأحزاب حتى تلك التي تعتبر نفسها يسارية. لا زلنا نتذكر كيف أن لشكر تنقل إلى مدينة وجدة في يوم حار ليحضر مهرجانا خطابيا يزكي فيه رئيس المجلس الجماعي السابق لخضر حدوش الذي لا لون سياسي له تحضيرا لاستحقاقات 2016 … المشهد موثق على اليوتوب. المضحك أن لشكر قدم السي حدوش إلى القواعد الاتحادية على أنه مناضل، ولكن التهريج السياسي كان مفضوحا أظهر ميل الحزب الوطني، ذي التاريخ النضالي والفكري، إلى “مول الشكارة”..
أمام هذا الوضع الشاذ، يحق لنا أن نتساءل: كيف ينظر “مول الشكارة” إلى المؤسسة الحزبية؟ ولماذا تقرب الأحزاب “مول الشكارة” وتقصي مول الفكر؟
“مول الشكارة” براغماتي إلى النخاع، براغماتيته آلية تطلب نتائج ربحية فورية، لذا هو لا ينظر إلى لون الحزب ومرجعياته، وإن كانت اليوم كل الأحزاب أصابت مرجعياتها التعرية. لا يهتم ببرنامج الحزب. قد يكون “مول الشكارة” أميا، لا يكتب ولا يقرأ، ولكن يملك القدرة المالية التي تحقق طموحاته السياسية….
لا يبحث “مول الشكارة” إلا عن التزكية الحزبية. قد يحمل في هذه الاستحقاقات لون حزب الإسلام السياسي، وفي استحقاقات أخرى لون حزب إداري، وفي أخرى لون حزب يساري… اللون لا يهم وإنما النتيجة هي الأهم.
لا ينضبط “مول الشكارة” لقرارات الحزب الذي منحه التزكية ولا يراهن على الحملة الانتخابة التي تقوم بها القيادة، إنه يملك آليات عمله الخاصة به، ويخوض حملته الانتخابية اعتمادا على وسائله، وفي غالب الأحيان تكون له كتلته الانتخابية جاهزة، لا تنتظر إلا إشارة منه لتقوم القومة الانتخابية…
على الرغم من أن “مول الشكارة” يشتغل داخل المجموعة “الحزب”، إلا أنه لا ينضبط لضوابطها، وهذه إشارة تدفعنا إلى ضرورة البحث في خصائص المجموعة الحزبية من وجهة سوسيولوجية، ربما لو عرضنا هذه الوضعية على دوركايم، واضع القواعد العلمية لعلم الاحتماع، لوجد صعوبة في تفسيرها. ولكن نشير إلى أن خصوصية الجماعة الحزبية في وطننا تتميز باستقلالية قراراته، أي كل عضو في الجماعة له آلياته وأهدافه وقوانينه الخاصة به، ولعل هذا ما يفسر كثرة الانشقاقات في أحزابنا.
الحزب في وطننا ببعده البراغماتي الفردي الآلي يسعى إلى استقطاب “مول الشكارة”، لأنه يعرف أن هذا الصنف لا يستقر في حزب واحد لمدة طويلة، هو متنقل يحترف الترحال من لون إلى آخر زاده في “شكارتو”. القيادة الحزبية الأبدية تحقق مآربها السياسية بفضله، وتتسلق أعلى المراتب إلى أن تصل إلى مركز القرار السياسي، وهذا هو هدفها الأسمى.
أحزابنا تجد ضالتها في “مول الشكارة” ولا تحب “مول الفكر”. أصلا توجد عندنا أحزاب فصلت لتضم “مول الشكارة”، وهي التي تسمى في العرف السياسي “الأحزاب الإدارية”.
لماذا لا تحب الأحزاب “مول الفكر”؟ ببساطة “مول الفكر” هو من فئة القاطنين براغماتيته مختلفة عما هو سائد، يحرص على تتبع المسار الفكري للحزب، يحمل رؤية نقدية تتجرأ على تتبع الهفوات الفكرية التي تعتري المرجعية الحزبية… هو كثير الملاحظة، يحلل وينتقد ويطرح البدائل، ويوجه المسار الديمقراطي للحزب….
أحزابنا تحولت إلى دكاكين انتخابية، قياداتها ترى أن تواجد “مول الفكر” بينها هو “صداع الراس”.
أخيرا نطرح السؤال التالي: ماذا خسر الوطن بسبب إقصاء “مول الفكر”؟ خسر الوطن كل شيء، خسر مساره الديمقراطي، خسر حرية التفكير والتعبير، خسر نهضته الاجتماعية والثقافية والفكرية، خسر مصداقية العمل السياسي، خسر الثقة في المؤسسات، خسر تأطير وتعليم وتربية أبنائه على مبادئ وقيم الوطنية الحقة….
الخسارة ستتعمق ويكبر حجمها إذا لم تستدرك الأحزاب الوضع، أقصد الأحزاب ذات التاريخ النضالي والمرجعية التقدمية والتوجه اليساري. عليها أن تقوم بثورة فكرية ثقافية داخلية لترقى إلى مصاف الأحزاب الوطنية الجادة.