بقلم: عبد المنعم سبعي
أقبح الأزمات تلك التي تصيب الطفولة والشباب، وأفظع ما فيها أن يتم الإعلان عن إفلاس أحلامهم، وأول مؤشر على هذا الإفلاس هو محاولة الفرار من الوطن والبحث عن جنة فردوس مفقودة. ولعله من باب “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” نقف عند المحاولات العديدة للهروب الجماعي التي تناقلتها في إبانها صفحات التواصل الاجتماعي، وفي صورة أخرى جد مقززة تابعتها كما أصبحت متداولة بوكالات الأسفار إلى الخارج التي تستقبل حافلات ما وراء البحار، عشرات الأطفال والشباب ينتظرون هذه الحافلات ويتحلقون حولها، البعض ينتظر غفلة المسؤولين عن الحافلة للاختباء تحتها بجانب العجلات، والبعض الآخر يحاول من خلال قراءة لهندسة الحافلة اختيار المكان الأنسب للتواري عن الأنظار، الكل يريد الهروب والكل يبحث عن شيء جميل مفقود، وأحلامهم جميعا أصبحت معدودة في عالم المختفين.
مقتنعون أن أحلام شبابنا أضحت فقيرة جدا وضاقت حوله الأشياء حتى أصبح يشعر باختناق في كل شيء.. إن الزحام يطارده طفلا في المدرسة، ويطارده شابا في الجامعة، وكثيرا ما يجد نفسه حائرا في الحافلة إن استقلها.. والأخطر من ذلك كله أن يكبر ولا زال لديه حلم في وظيفة أو منصب لأن كل الطرق مغلقة.. أجيال الآباء الآن تبخل على الأبناء بالحلم ويقولون إنهم شباب تافه رغم أن الآباء لم يكونوا عباقرة والدليل أنهم الآن يسلمون للأجيال الجديدة وطنا مهلهلا في أخلاقه وعمله وماله وقيمه.. ادعاء الطهارة ليس دائما يقوم على الحقائق.. الآباء لم يكونوا عباقرة والأبناء ليسوا عاجزين كما يدعى البعض..
دروس كثيرة نخرج بها من مسلسلات الحياة اليومية للمغاربة.. إن الخيانة شيء عادى والفساد سلوك محترم مادامت الفيلا والسيارة والواجهة الاجتماعية الكاذبة هي الهدف الأسمى.. إن العفاريت أقرب طريق لحل المشاكل والأزمات.. والعري أفضل وسيلة للصعود.. والمال سلطان على الجميع.. والتحايل والنصب أقرب طريق للنجاح.. والثقافة عبء كبير وثقيل لأنها أقصر الطرق إلى الفشل..
في أيامنا كان من الممكن أن يجد الشاب فرصة عمل مميزة بلا تدخلات أو محسوبية، وكنا نتقدم في المسابقات وهناك عدالة في تقييم المواهب والقدرات.. ومنذ سنوات بدأ ميراث الوظائف والمناصب في كل قطاعات العمل.. كل واحد يسعى لتوريث ابنه مكانه ومكانته.. المحامي يترك المنصب للأبناء والطبيب لابد أن يكون ابنه طبيبا وإن كان الدبلوم من دول أوربا الشرقية، ومع نهاية كل عام يبدأ موسم جني الثمار، واتسعت هذه الدائرة حتى أغلقت كل الأبواب أمام المتفوقين من الشباب.. إن أوائل الخريجين لا مكان لهم الآن في قوائم الفرص وهناك آلاف الخريجين الحاصلين على تقديرات متقدمة ولم يجد أحد منهم فرصة عمل.. من السهل أن تجد أوائل الكليات الجامعية منهم من يعمل في مطعم أو في شركة للحراسة الخاصة، وهذا الخلل الذي أصاب الشاب المغربي جعله حاقدا على كل شيء انه يشاهد زميله الفاشل الذي حصل على شهادة البكالوريا بالكاد، وقد أصبح في وظيفة مهمة.. والأخطر من ذلك ليس المستوى الوظيفي، لكن المستوى المادي الذي أدى إلى انقلابات خطيرة في حياة الشباب.. إن الشباب الفاشل لم يرث من الوالد وظيفة فقط ولكن الأموال التي جمعها والده تكفي لأن تخصص كميزانية لصندوق النقد الدولي، هناك من سرق الوظائف والفرص وهناك من سرق أموال الشعب وهناك من سرق الاثنين معا.. وبعد ذلك كله مازلنا نتساءل عن أسباب غضب الشباب وسخطه. انه لم يحصل على شيء أمام طوابير الفرص الضائعة..
لابد أن نعترف بأن أمام المغاربة تحديات كثيرة وسط سحابات كثيفة من الغيوم التي تحيط بشبابنا ونسائنا، وكل طرف يعيد حساباته ويحاول أن يمسك باللحظة التاريخية قبل أن تفلت منه.. نحن أمام أطلال شباب، سوف نحتاج زمنا وجهدا غير يسيرين، حتى نعيد لهم الثقة في النفس أولا وفي السياسة ثانيا، وأمام أطماع حزبية لا أحد يعرف مداها خاصة أنها تجاوزت حدود السياسة وحساباتها ودخلت بقوة في حسابات الغنائم والامتيازات.. وهذا جزء من الصورة التي تحيط بنا وإذا لم تكن قاتمة فهي لا تطمئن.
مازلنا حتى الآن نفتش في جيوب الفقراء بدء بفواتير الكهرباء والماء ومرورا بفواتير التطبيب وزيادة الأسعار حتى بلغ الصراخ مداه ولم يعد أحد من المسؤولين يسمع صرخات هذا الشعب..
مازلنا حتى الآن نتصور أن الحلول الورقية للأزمات والمشاكل يمكن أن تغنى عن المواجهات الحقيقية لمنظومة الفساد التي دمرت قدرات هذا الشعب واستباحت ثرواته في سنوات النهب والتحايل. مازلنا نتخبط ونحن نبحث عن الأموال بأي وسيلة حتى ولو كان ذلك بالتفريط في شرف هذا الوطن ونسينا وسط ذلك كله أن هناك اقتصادا يقوم على الإنتاج والعمل وحسن استخدام الموارد ومواجهة الإسراف والإسفاف في الإنفاق الحكومي بكل أشكاله وصوره.
في غياب النهار يحل الليل وإذا جن الليل انتشرت الخفافيش، وفى غياب رؤى سياسية واضحة تحمل حقيقة هم الوطن، تنتشر الكراهية والأحقاد، وحين يكون الوطن بخيلا فلا تسأل الشباب عن سبب الهروب ولا تلومهم عن الكسل والجفاء.