حينما يكون وراء الوطن عظيم فلا تخش الضياع

بقلم: عبد المنعم سبعي

تسارعت الأحداث خلال هذه الأيام في شأن قضية الصحراء المغربية وتوجت باعتراف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بمغربيتها بعدما تبنت مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب سنة 2007 كسبيل وحبد لإيجاد حل لهذا النزاع الذي دام خمسين عاما بالكمال والتمام، ولن أحاول في هذه المقالة مقاربة الحدث بالتحليل والتعقيب الذي يستدعي خبرة واسعة في العلاقات الدولية والدراسات الجيوسياسية، والذي أغناه المتخصصون من زوايا معالجة متعددة، ولكن سأسعى إلى التنبيه على ثلاث ملاحظات أساسية عبارة عن انطباعات تولدت بفعل القرب الجغرافي لساكنة وجدة مع الجزائر والتأثر بإعلامهم السخيف الذي فقد بوصلته كما فقدها نظام الكابرانات نفسه.

أولى هذه النقط تتمثل في الغبن التي بدأت تعيشه الجزائر حكومة وشعبا وعسكرا، حيث استفاقوا من حلم راودهم خمسين عاما على قرار أممي نسف كل أكاذيبهم وأسقط المساحيق القديمة المنتهية الصلاحية من على وجوههم، فتبخرت الأحلام وضاعت الملايير وتقزمت صورة الديبلوماسية الجزائرية في أعين المنتظم الدولي كبيرهم وصغيرهم، فبعد خسارة الجزائر لجميع أوراقها ضد المغرب كان آخرها الاعتراف الأممي بعدالة قضيتنا الوطنية، ازداد غبنهم غبنين وتضاعف كمدهم كمدين، لأن الشعب الجزائري أدرك تمام الإدراك أن دولتهم حشرت أنفها في قضية لا تغنيهم لا من قريب ولا من بعيد، فضلا عن المرارة التي تتجرعها الجزائر كلما وقفوا على انجاز مغربي سواء كان رياضيا أو تنمويا أو ثقافيا أو سياسيا، فالمغرب بلد جار غير بترولي بلغ مستويات عليا ودرجات رفيعة في سلم البناء والتشييد والتحديث والديمقراطية.. بينما ضيعت الجزائر فرصا تنموية عديدة بالرغم من مداخله البترولية الخيالية، والسبب في هذه المفارقة الغريبة هو أن في المغرب توحدت كلمة ملكه وشعبه حول مسائل جوهرية من قبيل الديمقراطية والتنمية وحقوق الفئات المحرومة، فانطلق فيه البناء واستمر مسلسل التنمية حتى بلغ من الشأو ما لم تبلغه الجزائر التي سخرت كل مواردها لشراء الذمم واعتماد ديبلوماسية الحقائب، وتبذير ثروات البلاد وإفقار الشعب وإخراسه بقوة الحديد والنار.

لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم أن الجزائر أصبحت مصابة بقيادة مفلسة دفعت بالجزائريين إلى اليأس بعدما فقدوا كل الآمال في عيشة كريمة ونمو محسوس يعكس حجم عائدات الجزائر من الغاز الطبيعي التي لم تفلح في وضع حد للارتفاع المتزايد للبطالة والفقر والأمية والجريمة.. فالموارد المالية الكثيرة لا توجه لخدمة التنمية بقدر ما يتم استغلالها لمعاكسة المصالح المغربية أو تقسيمها بين أفراد الطغمة العسكرية الحاكمة والمقربين لهم ممن سايروهم في خبثهم وضغائنهم التي لا حد لها، فماذا نسمي هذا الذي حدث طوال خمسين عاما؟ أنسميه أمراضا أم هذيانا أم تقصيرا أم عدوانا…؟ لنختر من الإجابات ما شئنا، فإننا أمام حالة مستعصية لا يسعنا إلا أن ندعو لهم بشفاء صدورهم مما هم فيه يتخبطون.

ثاني هذه النقط تبرز أساسا فيما لامسته من قيم الملوك العظام وما أحسست به من أخلاق النبوة كما تسللت إلى الملوك الأشراف العلويين، ذلك ما عَنَّ لي عندما تابعت خطاب صاحب الجلالة مباشرة بعد إعلان نتيجة التصويت بمجلس الأمن، حيث بدا صاحب الجلالة في هذا الخطاب كصاحب حوار وتواصل من الطراز العالي، بل صاحب قيم أخلاقية رفيعة لا يقوى عليها إلا من تسللت إليهم أخلاق النبوة المحمدية من سلف إلى خلف ومن جد إلى حفيد، فالملك لم يتحدث بلغة المنتصر بالرغم من النصر الدبلوماسي البين، بل يعيد انتاج منطق التوافق الدولي إذ لا غالب ولا مغلوب، وهو يبني السلام لا يفرض الهيمنة، ويدعو إلى حوار أخوي صادق مع الجزائر من أجل فتح صفحة جديدة من الثقة وحسن الجوار وبناء مستقبل مغاربي مشترك. فهذه الإشارات الكبيرة لا يمكن فهمها إلا بربطها بحدثين تاريخيين كبيرين، أولهما ما أبان عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لأهل مكة الذين حاربوه بلا هوادة ولا شفقة، من الخلق العظيم والتسامح العالي عندما خاطبهم بقوله اذهبوا فانتم الطلقاء، وثانيهما ما ترويه كتب التاريخ من أن المولى قاسم بن محمد عندما عزم إرسال ابنه المولى الحسن الداخل جد الأشراف العلويين إلى المغرب، أراد أن يختبر أخلاقه وسلوكه، فسأله من بين ما سأله، ما يصنع بمن عامله بالخير فأجاب بخير مثله، وما يصنع بمن عامله بالشر أجاب أيضا بالخير إلى أن يغلب خيره شر من تعامل معه بالشر. فهذه الأخلاق التي تسللت إلى الملك محمد السادس ليست مجرد تكتيك دبلوماسي بل هي سجايا متوارثة من مشكاة النبوة، ومبادئ سامية لا يتزحزح عنها المغاربة قيد أنملة، وهي التي تخلق التميز للمغاربة ملكا وشعبا.

ثالث هذه النقط تفرضها الموازنة بين سياسة بلد همه استكمال وحدته الترابية وبناء وطنه على أسس متينة من الديمقراطية ومد يده لكل مخطئ وعاق عاد إلى جادة الصواب، وبين دولة أخرى لا تتقن إلا معاكسة مصالح جيرانه المغاربة وبذل الغال والنفيس من أجل إضعاف المغرب وإرهاقه ومحاصرته، وما أفلحوا في ذلك وما بلغوا مرادهم ما دام الحق يعلو ولا يعلى عليه، وما دام الفوز والغلبة تكون في نهاية المطاف لأصحاب الحق لا لأصحاب الباطل، فمياه الأنهار لا يمكن أن تتساوى مع مياه المستنقعات، كما لا يمكن أن تتساوى العصافير والغربان، ولا يمكن أن تكون نهاية من يطفئ كل الأنوار كمثل من يضيء الشموع والمصابيح، ففي المغرب يتربع عشاق النور ومحبو النهار، وفي الجهة الأخرى تسكن خفافيش تحب الظلام وتسود بالباطل والقوة، فانسحبت من ربوعهم حشود العدل والخير والجمال. فعندما سيجلس المغاربة يراجعون دفاتر تاريخهم سيجدون وجوها كثيرة أسعدتهم وكانت مثالا في الرقي والتحضر، وسيجدون أيادي كثيرة امتدت لهم وهم يصارعون الأمواج، وسيجدون قيادات كأنها أسراب من العصافير واكبت مشوارهم ومسيرتهم في الحياة والتنمية والبناء.. أما عندما سيجلس الجزائريون يفتشون في ثنايا أمجادهم فسيجدون وجوها أدمنت الكذب والضلال والتحايل، ووجوها احترفت وضع العصا في العجلة ومعاكسة مصالح من آووهم وأطعموهم وأعزوهم يوم كانوا أذلة وتنكر لهم الكثير كأنهم أوراق نقدية مزورة، إن الدول كما البشر منهم أشجار فارهة ومنهم الحشائش المتسلقة، وفي نهاية المطاف يبقى النخيل نخيلا، وتبقى الحشائش سكنا للحشرات، والجزائر عندما اختارت أن تكون سكنا للمرتزقة فقد اندحرت إلى مستوى الحشائش، وبقي المغرب نخلة باسقة بمبادئها وثباتها وتسامحها، بل بقي كذلك لان وراءه ملكا عظيما، والدولة التي يكون هذا حال قيادتها فإنها لا تخشى الضياع.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

باريس تحتضن احتفالية كبرى للجالية المغربية بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء

صاحب الجلالة يقرر جعل 31 أكتوبر من كل سنة عيدا وطنيا تحت إسم “عيد الوحدة ” (بلاغ من الديوان الملكي)