عبد القادر كتــرة
أعلن وزير المجاهدين في الجزائر العيد ربيقة، الإثنين 9 مايو 2022، اكتشاف آبار عبر 12 ولاية ممتلئة برفات آلاف الشهداء، الذين كانوا في عداد المفقودين خلال “حرب التحرير”.
وأوضح ربيقة، حسب جريدة الخبرة الجزائرية، أنه تم العثور على رفات مفقودي الثورة الجزائرية، على مستوى 12 ولاية، بمعدل بئر إلى ثلاثة آبار بالولاية الواحدة، ويحتوي كل بئر ما بين 10 إلى 400 رفات شهيد مفقود.
وأشار ربيقة، إلى أن ملف المفقودين خلال “حرب التحرير، شائك للغاية ويمكن إدراجه، ضمن مجزرة من مجازر الاستعمار الشنعاء التي ارتكبت في حق الجزائريين، مضيفا أن جميع الملفات الخاصة بالذاكرة يتم تداولها ودراستها في إطار اللجان العليا المنصبة على أعلى مستوى والتي تدرس بين الطرفين الفرنسي والجزائري.
وجاءت تصريحات وزير المجاهدين في وقت أحيت فيه الجزائر ذكرى 8 مايو التي راح ضحيتها 45 ألف جزائري على الأقل، فيما قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن “المجازر البشعة” التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في بلاده “لا يمكن أن يطويها النسيان”؛ حيث تطالب الجزائر فرنسا بالاعتذار عن جرائمها خلال الفترة الاستعمارية للجزائر.
وشكك معظم الجزائريين والفرنسيين في هذا الخبر غير المنطقي والصعب تصديقه بحكم أن اكتشاف 36 بئرا في نفس اليوم وعبر 12 ولاية وقدر عدد الضحايا بأكثر من رفات ل 3500 شهيد مفقود، كما لو كان الحاكمون الفعليون في الجزائر (الجنرالات خالد نزار وتوفيق مدين والسعيد شنقريحة ومجاهد وغيرهم) يتوفرون على خرائط الآبار/المقابر الجماعية ويعرفونها ويعلمون عنها أدقّ التفاصيل، لكن جوف أرض الجزائر تقيأ جرائم العشرية السوداء لهؤلاء المجرمين الجزارين في حقّ شعبهم الأعزل، وبدل الاعتراف بأن الأمر يتعلق بآلاف المفقودين خلال العشرية السوداء التي أبطالها أفراد العصابة الحاكمة في الجزائر ألصقوها بفرنسا ونسبوها لحقبة الاستعمار الفرنسي خلال ثورة أكثر من 70 سنة).
لازال ملف المفقودين بمثابة شوكة في حلق السلطات الجزائرية، التي فشلت في الإفلات من هذا الملف الذي لازال يثير الكثير من التساؤلات داخل الوطن وخارجه، ما دفع الجزائر إلى تسليم هذا الملف العام الماضي رسميا الى بعثة الأمم المتحدة، التي وعدت بالتحقيق فيه، غير أن الأوضاع لازالت مبهمة، ومصير أزيد من 7200 جزائري لازال مجهولا بعد 9 سنوات من إقرار قانون المصالحة وميثاق السلم الوطني، ما دفع جمعيات ضحايا المفقودين إلى تأسيس أول فيدرالية وطنية للمفقودين، تم الإعلان عنها مطلع الأسبوع الجاري، وعد مؤسسوها بمزيد من النضال من أجل كشف حقيقة المفقودين في الجزائر، في ظل تراجع الجمعيات الحقوقية في المرافعة عن هذا الملف.
عائلات المفقودين، حسب مقال نشرته جريدة “الشروق الجزائرية”، في 3 أبريل 2014، عكفت على تنظيم تجمع احتجاجي كل 29 سبتمبر من كل عام أمام قصر الحكومة والبرلمان، وهي ذكرى المصادقة على قانون المصالحة الوطنية الذي صدر في 2005، ودخل حيز التطبيق في 2006، والذي نصّ على تعويض عائلات المفقودين خلال “المأساة الوطنية”، وتقديم إجابات مقنعة عن مصير كل مفقود، وهذا ما لم يتم حسب المتحدث إلى غاية اليوم، ما دفع جمعيات المفقودين إلى التكتل في فيدرالية وطنية من أجل تكثيف الجهود حول كشف حقيقة هذه الشريحة من المواطنين، الذين اختطفوا قصرا واقتيدوا إلى مناطق مجهولة.
ولم يخف المتحدث “إمكانية وجود مقابر جماعية للمفقودين الذين لم يظهر لهم أثر لأكثر من 20 سنة، والمقدر عددهم بأزيد من 10 آلاف مفقود، وهذا ما زاد من معاناة الآلاف من العائلات التي لا زالت تحترق كل يوم لمعرفة مصير أبنائها”.
وأضاف المتحدث أن 40 بالمئة من عائلات المفقودين رفضت التعويض المقدر بـ”100 مليون” وهي تطالب اليوم بالجثث، ولن يغمض لها جفن حتى تتعرف على حقيقة ما حدث لأبنائها.
20 عاما من الانتظار تعاني فيها عائلات مفقودي العشرية السوداء من الآلام والأحزان ويطالبون بمصير أبنائهم المختفين بالجزائر ومنهم من يحتجون مرتدين أقنعة بباريس .
“خلال مرحلة التسعينات، حدثت في الجزائر تجاوزات عدة بخصوص حقوق الإنسان، سواء من طرف المسلحين أو السلطة، وكان ذلك سببا في اختفاء آلاف الجزائريين، بحجة محاربة التطرف المسلح”، هكذا تلخص رئيسة جمعية “S.O.S DISPARUS”، نصيرة ديتور، ملف “مفقودي العشرية السوداء”.
تقول إن هذه القضية بقيت “دون متابعة جادّة من طرف السلطات المتعاقبة على الحكم منذ تسعينات القرن الماضي والحديث عن المفقودين بالجزائر يُطرح بحّدة كل سنة، بمناسبة ذكرى المصادقة على قانون المصالحة الوطنية في 29 سبتمبر 2005.
فخلال تجمعات شعبية نظمها بوتفليقة للدفاع عن قانون المصالحة الوطنية، كان أهالي مفقودين يقاطعون خطاب الرئيس الجزائري مطالبين بكشف مآل المختفين، لكن الرئيس كان يرد قائلا: “ليست لي أية مصلحة في إخفاء أبنائكم”.
قانون المصالحة الوطنية صودق عليه سنة 2005. لاحقا، أُصدر أمر يقضي بتنفيذه، يوم 27 فبراير سنة 2006، والوثيقة توضح أن حالات كثيرة من الاختفاء تورط فيها من سمتهم “الإرهابيين”، بيد أنها أقرت بمحاسبة “ممثلي الدولة”، الذين اتهموا بالتورط في اختفاء أشخاص خلال تلك الفترة.
في المقابل، لم يتضمن الأمر بتنفيذ قانون المصالحة التزاما من طرف الدولة بكشف مصير المفقودين، كما أورد جملة لا تنطوي على تعهد واضح، وتتجلى في الالتزام بـ”تكفل الدولة بمصير جميع الأشخاص المفقودين مع ما يتبعها من إجراءات ضرورية”، هل يشمل التكفل كشف مصير هؤلاء؟
نصيرة ديتور لا ترى ذلك، معتبرة أن “سياسة المصالحة تدعم النسيان وتضمن الهروب من العقاب للمتسببين في فقدان أكثر من 8 آلاف جزائري”، على حد قولها.
استهل مراسل CNN بالعربية في الجزائر مقالا نشر، الاثنين، 17 أكتوبر 2016، عنونه ب”العشرية السوداء بالجزائر.. مجازر بشعة خلّفت جروحًا لم تندمل” ب:”ليس سهلا أن تفتح جراحا كادت أن تصبح ذكرى وتنبش في قبور الذكريات الأليمة وتستخرج منها رفات الماضي الذي يحاول سكان قرى ومداشر ولاية المدية التخلص منها عبر النسيان، وحدها الدموع التي تندلق من عيون الأهالي كافية لتتأكد أن جرح الإرهاب غائر، ويحتاج إلى مزيد من الوقت حتى يندمل ويشفى.
كغيرها من المدن الجزائرية، عانت ولاية المدية من ويلات الإرهاب، وتسببت خناجره من ترك ندبة ظاهرة للعيان، ما يجعلك تقرأ الحزن والأسى في عيونهم التي أنهكتها الدموع على فراق الأحبة، في سنوات التسعينات، وحتى البسمة على مُحاياهم قد ذبحتها سكاكين الأزمة، كان الإرهاب حدّها وذاك المجهول، يمسك بمقابضها.
عشرون عاما تمضي على ما اصطلح عليه آنذاك، “عام المجازر”، من سنوات الجمر التي اكتوت بها المدية وضواحيها وكانت مسرحا لأبشع العمليات الإرهابية من تقتيل وذبح وتنكيل وغيرها من الصور اللاانسانية التي خلفتها أيادي الغدر الهمجي التي أتت على القرى قبل المدن والتهمت أي شيء يقف أمامها.
وقتها، ذاق سكان القرى العزل، مرارة العنف الذي بلغ مداه، بفعل الرعب الذي زرعته الجماعات الإرهابية وصارت تخطف الأرواح وتقطف زهورها من شجرة الحياة، حتى تعسعس ظلامها على كل الإرجاء وتحول إلى شبح يطارد كل نفس تواقة للحياة، بعدها لم يجد الأهالي بُدا غير الدفاع عن أنفسهم وحماية عرضهم وشرفهم بحمل السلاح.
وعلى هذا الأساس، واستنادا إلى نفس المصدر، خلُصت السلطات الجزائرية، حينذاك، مع اشتداد الأزمة وتعاظم المجازر التي ارتكبها الإرهاب، إلى قرار بتسليح المواطنين في المناطق التي داهمها طوفان العنف، قصد حماية أرواحهم، فضلا عن تهجير ساكنة المناطق الجبلية القريبة من مراكز تواجد الجماعات الإرهابية إلى المدن أو القرى الأخرى الأكثر أمنا.
وقدمت الجزائر، حينها، أكثر من 200 ألف قتيل، وفقا للإحصائيات شبه الرسمية، ودفعت المدية وقُراها نصيبا من أبناءها لينضموا إلى قوافل الشهداء، الذين سقطوا في ميدان الشرف، ممن تجندوا في صفوف الأجهزة الأمنية أو ممن حملوا السلاح طواعية دفاعا عن قُراهم في سبيل دحض الإرهاب والمساهمة في عودة الحياة مجددا إلى مواطنهم.
وفي تلك الفترة العسيرة، تداول على كرسي الحكم عدة زعماء أمثال محمد بوضياف وعلي كافي واليامين زروال الذين قدموا مشاريع إصلاح وعملوا على إخماد نار الفتنة، غير أنها لم تكن كافية، إلى أن جاء الدور على عبد العزيز بوتفليقة الذي وصل إلى الحكم مصحوبا بمشروع الوئام الوطني سنة 1999، ليأتي على أنقاضه مشروع المصالحة الوطنية سنة 2005 .
تتعدد القصص المأساوية من منطقة إلى أخرى وتختلف التفاصيل وحتى ولو تشابهت في النتيجة، ولكل قرية من هذه القرى المترامية على هذه التلال والمتناثرة كالفطريات، تقرأ معاناة أهاليها مع فترة العشرية السوداء نظرا لحجم وعمق الضرر التي تسببت فيه المأساة.
إحدى القرى تسمى قرية “أهل الشعبة”، وتعلق بذاكرتهم قصة تلك العائلة التي تم تصفيتها من قبل جماعة إرهابية بسبب انضمام شاب كان تقدم لخطبة ابنتهم، إلى صفوف قوات الحرس البلدي.
ففي يوم من أيام سنة 1996، يقول “رابح”، دخلت مجموعة إرهابية إلى القرية مدججة بالسلاح، واقتحموا إحدى المنازل، وأخرجوا شابة في مقتبل العمر رفقة والدتها، وقاموا بقتلهما وتقطيع رأسيهما وتعليقهما في محطة توقف الحافلات بمنطقة سيدي العكروت التي تبعد عن القرية بأقل من كيلومتر واحد.
بعدها، قامت هذه الجماعة برمي جثتهما على قارعة الطريق، وهي الصورة التي لم تتمكن سحب الزمن أن تمحوها من ذاكرة “محمد” واحد الشباب الذين شاهدوا ذلك المنظر المرعب لما كان يدرس في مرحلة الابتدائية….