مريم الخلفي: باحثة بسلك الدكتوراه في الحقوق: جامعة الحسن الأول بسطات
لطالما تزايدت الحاجيات الملحة للمواطنين، نتيجة تطور الدولة، وانتقالها من الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة ثم المنتجة، أي دولة الرفاهية، تقوم بتقديم الخدمات للمواطنين. وهذا بطبيعة الحال أدى إلى زيادة مضطردة في حجم النفقات العمومية، خاصة أمام ندرة الموارد العمومية، وتعدد الإكراهات المرتبطة بالتدبير التقليدي للمالية العمومية، الذي كان يهتم بالمساطر والشكليات عوض اهتمامه بنجاعة الأداء، مما أدى إلى ظهور تفاوتات اجتماعية ملحوظة.
ولما كانت النفقات العمومية تشكل أهم الأدوات التي تنفذ بها الدولة برامجها التنموية في مختلف المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والبيئية…، الهادفة إلى رفع مستوى معيشة ورفاهية المواطنين، وتحقيق التنمية المستدامة للأجيال الصاعدة، فقد بات من الضروري ترشيد النفقات العمومية لكي تتم في إطار يضمن التوافق بين الإنفاق وأهداف السياسة النقدية والمالية، وأن يتم توزيع الموارد العمومية على أكمل وجه بين مختلف القطاعات التنموية، بطريقة تعكس أولوياتها السياسية، بما في ذلك النمو المستدام، فضلا عن تحقيق التنمية البشرية.
وعليه فقد أصبح المسؤولين الحكوميين ملزمين بدخول مرحلة جديدة يتوخى منها تجاوز المعيقات السابقة في تحديد الأولويات الاقتصادية والاجتماعية…، والانكباب على توجيه النفقات العمومية لتنمية القطاعات ذات الأولوية (التعليم، الصحة، الشغل، القطاع الإنتاجي…)، وفق ما تقضي به أسس ومبادئ الحكامة المالية الرشيدة في التدبير الناجع والفعال للنفقات العمومية، خاصة أمام ما أبانت عنه جائحة كوفيد 19، من ضعف وهشاشة على مستوى هذه القطاعات، التي تشكل الورش الحقيقي لانطلاق النموذج التنموي الذي دعا جلالة الملك نصره الله وأيده لبلورته، وهذا ما دفع الحكومة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير تهدف إلى ترشيد النفقات العمومية للتخفيف من حدة الآثار الناتجة عن الجائحة على المواطنين، وتوجيهها لتنمية القطاعات ذات الأولوية التي أملتها الجائحة، إذ أصدر رئيس الحكومة مجموعة من المناشير تصب في هذا الشأن، من أهمهما نجد :
المنشور رقم 05-2020 المتعلق بالتدبير الأمثل للالتزام بالنفقات خلال فترة الطوارئ الصحية، والذي دعا فيه رئيس الحكومة إلى توجيه الموارد المتاحة نحو الأولويات التي تفرضها الأزمة المرتبطة بالجائحة على المستوى الصحي، والأمني والاقتصادي والاجتماعي، مع تحديد النفقات غير الضرورية المطالب بتخفيضها أو إلغائها في مقابل تحديد النفقات ذات الأولوية التي يمكن للقطاعات الالتزام بها؛
المنشور رقم 12-2020، المتعلق بإعداد مشروع قانون المالية لسنة 2021، الذي دعا فيه رئيس الحكومة مختلف القطاعات الوزارية إلى ضرورة مواصلة اتخاذ التدابير اللازمة لضبط التحكم في التدبير الأمثل والرشيد للنفقات العمومية؛
المنشور رقم 04-2021، المتعلق بإعداد المقترحات المرتبطة بالبرمجة الميزانياتية لثلاث سنوات 2022-2024 مدعمة بأهداف ومؤشرات نجاعة الأداء.
واعتبارا لكون أن مسألة عقلنة تدبير النفقات العمومية تعد مطلبا أساسيا لتحقيق التنمية للمواطنين، فإنه ينبغي على الإدارات المكلفة بالإنفاق العمومي، اتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق المنفعة العامة بأقل التكاليف الممكنة مع مراعاة جودة الخدمات والسلع بكيفية تؤدي إلى الرفع من مردوديتها، لتأمين حاجيات عموم المواطنين على قدم المساواة، والابتعاد عن الإسراف وتبذير الأموال العامة في مجالات غير مفيدة أو بكيفية مبالغ فيها، وهو ما يستلزم بالضرورة الابتعاد عن الإنفاق غير المنتج أو الذي تكون إنتاجيته ضعيفة، فكل مصلحة ينبغي أن تبحث عن أعلى درجة من الفعالية، مقابل تكلفة ممكنة ” فما دمنا لا نستطيع الإنفاق أكثر فإنه ينبغي الإنفاق بشكل أفضل”.
وفي الختام كل ما يمكن أن نؤكد عليه بخصوص ترشيد النفقات العمومية ودوره في تحقيق التنمية للمواطنين، هو أن توجيه صرف النفقات العمومية نحو منطق تحقيق النتائج، واعتماد منطق النجاعة في الأداء، وتقييم نتائجها، مع ربطها بالمحاسبة والمساءلة من شأنه أن يساهم في الرفع من مردوديتها لتحقيق أبعادها التنموية التي تبذلها الدولة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية. غير أنه لكسب رهان بناء نموذج تنموي أكثر إدماجا، يبقى رهين بالتعاطي الحازم والمسؤول في تفعيل مضامين الإصلاح الذي عرفه تدبير النفقات العمومية، من مختلف الفاعلين والمسؤولين عن تدبير الشأن المالي العمومي أو المكلفين بإقرار الحساب عنه. ذلك أن المعول عليه الآن للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمختلف المواطنات والمواطنين، هو التحلي بالضمير المسؤول ووضع القطيعة مع عقلية الفساد بمختلف أشكاله، وإقرار الحساب عنه. ولن يتحقق ذلك بدوره إلا من خلال اعتماد رقابة ناجعة ترتكز على أسس تقييم النتائج، مع ربط المسؤولية بالمحاسبة