الأستاذ حسوني قدور بن موسى: محامي بهيأة وجدة
منذ نكبة 1948 تقوم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على مبدأ مساندة اسرائيل و دعمها عسكريا و سياسيا و اقتصاديا والاشراف المباشرعلى شؤون دول المنطقة دون اشراك عنصر ثالث في هذه المعادلة وهي واثقة من أنها قادرة على السيطرة على الوضع الحالي الذي تسيطر فيه اسرائيل على الاراضي الفلسطينية واحتواء الدول المجاورة عن طريق التطبيع والتطويع كما أن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيارالكتلة الشرقية أبرز سيطرة أمريكا و انفرادها بزعامة العالم الأمر الذي أتاح لها فرصة التدخل العسكري في كثير من الدول في أمريكا اللاتينية وأسيا وافريقيا والشرق الأوسط للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، وفي هذا الاتجاه تأتي زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن ” إلى المنطقة العربية بعد فترة من الجمود و محاولة استرجاع زعامتها لقطب النظام العالمي الأوحد و هي التي كانت زعيمة الائتلاف الدولي المنتصر في حرب الخليج لحماية مصالحها المرتبطة بالنفط و حماية أباره و ضمان وصول امداداته الى الدول الصناعية المتقدمة من دون انقطاع خاصة في ظل حرب روسيا على أكرانيا التي تسببت في أزمة الطاقة و الغذاء، و منذ الخمسينيات وضعت الدول الغربية و على رأسها أمريكا و بريطانيا ترتيبات أمنية تواكب مصالحها في منطقة الشرق الأوسط اتخذت شكل أحلاف عسكرية لكنها اصطدمت بقوى شعبية رافضة رغم تحالف أنظمة عربية خائنة للقضية الفلسطينية و للوحدة العر بية، وما نشاهده اليوم من رفض شعبي في فلسطين واليمن و سوريا و باقي الشعوب في الدول العربية للسياسة الأمريكية الرامية الى السيطرة على المنطقة بكاملها، والمقصود من التواجد الأمريكي في المنطقة هو ضرب طوق على دول الخليج و خاصة ايران والعراق واليمن لمنعها من لعب أي دور في المنطقة لكن أمريكا تغيب عنها حقيقة ثابتة وهي أن هذا الحصارعلى دول المنطقة و سرقة خيراتها البترولية سيكون مكلفا حيث أن تدخلات أمريكا في كثير من دول العالم كلفتها خسائر بشرية و مادية جسيمة واجهتها منظمات حقوقية و شعبية في العالم وفي أمريكا نفسها باحتجاجات قوية رافضة للتدخل العسكري الأمريكي كما وقع أثناء التدخل العسكري الأمريكي الدموي في العراق واعدام الرئيس صدام حسين في يوم عيد الأضحى أمام أنظار مليار و 800 مليون مسلم في العالم، و كانت أمريكا تبرر تدخلها العسكري في العراق بمنع العراق من امتلاك الأسلحة النووية و محاربة الارهاب لكن في الحقيقة أن ذلك التدخل كان يهدف إلى أضعاف قدرات العراق العسكرية و الاقتصادية و حماية أمن اسرائيل ، غزو وسيطرة عسكرية شاملة أدت إلى احتلال العراق بذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل مما أدى إلى خسائر بشرية قدرت بمليون قتيل و مصاب و ملايين المشردين و إسقاط نظام الرئيس صدام حسين و انزلاق البلاد في عنف دموي لكن في الحقيقة أن الغزو العسكري كان يهدف إلى وضع اليد على ثروة العراق النفطية الهائلة من طرف مسؤولي شركات نفط أمريكية كبيرة من بينها مجموعة ” هاليبيرتون النفطية” التي كان نائب الرئيس الأمريكي ” ديك تشيني” يتولى ادارتها و الدليل على ذلك هو أن وزارة الدفاع الأمريكية منحت شركة النفط الأمريكية عقدين مختلفين بسبعة مليارات دولار لاعادة البنى التحتية النفطية العراقية والتزويد بالمنتجات النفطية المكررة في العراق و الثاني لتقديم دعم لوجستي للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط و أسيا الوسطى بقيمة 8.6 مليارات دولار ، كما أكدت وثائق سرية حكومية بريطانية وجود علاقة قوية بين شركات و مؤسسات نفطية و عملية غزو العراق و قالت أن خططا لاستغلال الاحتياطي النفطي العراقي تمت مناقشتها بين مسؤولين حكوميين و بين كبريات الشركات النفطية العالمية و خاصة البريطانية و منها شركة “شال” قبل عام من تاريخ غزو العراق وهذا يدل على أن التخطيط للغزو العسكري كان بمشاركة شركات البترول الكبرى و كشفت الوثائق السرية بأن الشركات البريطانية سيكون لها حصتها من الاحتياطات العراقية الهائلة من النفط والغاز مقابل التزامها سياسيا و ذلك مكافأة لها على الدور الذي ستقوم به بريطانيا عسكريا لاسقاط النظام العراقي و هذه العملية تذكرنا بأفلام ” رعاة البقر” الذين يتفقون على سرقة و نهب مؤسسة بنكية لاقتسام الغنيمة بينهم، وهذا العدوان ، مع الأسف، شارك فيه بعض الحكام العرب اعتقادا منهم بأن الرئيس صدام حسين يهدد الأمن والسلم في المنطقة و في مطلع يناير 2003 أعلن الرئيس الأمريكي ” جورج بوش” في خطاب له ألقاه باحدى القواعد العسكرية الأمريكية بولاية ” تكساس” أن بلاده جاهزة و على استعداد عسكريا للتدخل في العراق إذا رفض العراق نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها و لقد خدعت أمريكا في عدوانها على العراق عشرين دولة استخدمتها لغزو هذا البلد هذا بالاضافة الى قوى المعارضة بكردستان التابعة للحزبين الرئيسيين “البشمركة” العراقية و التنظيمات المقيمة بالمهجر و الأحزاب الشيعية اللاجئة و شخصيات تعيش في أوروبا كل هذا من أجل حبك خيوط عملية الغزو لاضفاء الشرعية على عملية عسكرية غير شرعية تم تنفيذها دون موافقة مجلس الأمن، لكن الغزو العسكري الأمريكي الذي قام على أساس أن العراق يهدد دول المنطقة عن طريق أسلحة الدمار الشامل ما هو الا ذريعة و خدعة هدفها سيطرة أمريكا و حلفائها على منابع النفط والغاز العراقي ، وأمريكا التي اتهمت العراق بانتاج أسلحة نووية هي نفسها أول دولة طورت أسلحتها النووية وأنظمة ايصال الأسلحة بعيدة المدى وأجرت أكثر من 1000 تجربة نووية وأنفقت أكثر من 8.75 تريليون دولار لتطوير الأسلحة النووية، واستعملت العنف و دمرت دولا عديدة عن طريق التدخل العسكري في كوبا وغواتيمالا والدومينكان و كمبوديا وأفغانستان و ليبيا و الصومال و رووندا وهايتي و دولا أخرى ذات سيادة، و كان التدخل العسكري الأمريكي في العراق بتأييد من بعض الدول العربية الخليجية التابعة لأمريكا خلافا للمادة 7 من ميثاق الأمم المتحدة التي تسمح باتخاذ تدابير زجرية كلما وقع تهديد للأمن و السلم الدوليين. و أمريكا التي اتهمت العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل هي نفسها التي أنتجت 70000 رأس نووي منذ سنة 1945 استعدادا لهجوم نووي محتمل، و للتذكير فان قوات حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية استخدمت القصف الجوي على المدن والمدنيين ذهب ضحيته أكثر من مليونين و نصف قتيل، 800 قتيل في مدينة برلين وحدها وارتكبت أمريكا مجازر رهيبة ضد الانسانية و جرائم حرب بشعة وقتل الأسرى في ألمانيا و اليابان و لم يتم التحقيق فيها الى يومنا هذا وقد أكدتها دراسات مثل كتاب معركة ” نورماندي دي- داي” و كانت أمريكا تنظر الى أسرى الحرب على أنهم غير أدميين و بلغت جرائم الحرب التي ارتكبتها أمريكا و الموثقة لدى البنتاغون من ضمنها مجزرة ” ماي ماي” في الفيتنام الجنوبية بلغ عدد القتلى فيها 504347 مدني أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء حيث استخدمت أمريكا السلاح النووي والرش الكيماوي البرتقالي والأزرق والأخضر لتدمير و حرق واتلاف البشر والحقول والقرى دون شفقة و لا رحمة.
وتعتبر قضية فلسطين المحتلة من أشهر وأبرز القضايا التي لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية متزعمة حقوق الانسان في العالم دورا شيطانيا خبيثا اذ نصرت الباطل على الحق فساهمت بذلك في اقتلاع شعب بأكمله من أرضه ربما لأول مرة في التاريخ الحديث ليحل محله عصابات صهيونية غرباء تهافتوا على أرض فلسطين من جميع أنحاء العالم امتثالا لدعوة الحركة الصهيونية العنصرية التوسعية بزعامة مؤسسها ” تيودورهرتزل ” النمساوي الجنسية من أصل يهودي الذي يعتبرالمهندس والأب الروحي التاريخي للصهيونية السياسية الحديثة الذي شجع يهود العالم على الهجرة الى فلسطين والتخطيط لما يسمى بالهجرة المعاكسة أي تهجيرالفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين و طردهم الى خارج فلسطين. وبميلاد الأمم المتحدة عام 1948 ساندت أمريكا الصهاينة على احتلال القدس العربي وأجزاء كبيرة من فلسطين بدعوى حق مزعوم لليهود فيها و بعثت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة خاصة لاستطلاع رأي السكان لتقديرالموقف وبضغط من أمريكا والصهيونية العالمية وضعت ما يسمى بخطة أكثرية بتقسيم فلسطين الى دولة عربية و دولة يهودية و تدويل مدينة القدس و رغم ادانة اسرائيل عشرات المرات في مجلس الأمن وألاف المرات في لجان الهدنة بسبب أعمال العدوان المستمر ضد الشعب الفلسطيني عجزت الأمم المتحدة عن تخطي مرحلة اللوم والانذار والتهديد الكلامي الى فرض العقوبات الواردة في الميثلق لقمع الاحتلال بل عجزت الأمم متحدة عن ادانة العدوان الاسرائيلي سنة 1967 الذي افتخرت واحتفلت به اسرائيل امام الأمم المتحدة و ظلت أمريكا تدعم العدوان الاسرائيلي و تسانده عسكريا و سياسيا و اقتصاديا و في المقابل ظل الفلسطينيون يقاومون لوحدهم قوات الاحتلال الصهيوني الى يومنا هذا واستولى الكيان الصهيوني على نحو 78 في المائة من أرض فلسطين التاريخية متجاوزا بذلك ما نص عليه قرارالتقسيم رقم 181 الصادرعن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 علاوة على اقتلاع وتهجير سكان الأرض الأصليين حيث غادر فلسطين أثناء الحرب وبعدها زهاء 940 ألف لاجئ فلسطيني وترتب عن ذلك صدور القرار رقم 194 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولا ننسى أن الدول الغربية التي أصدرت اعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 هي التي احتلت مصر بقيادة نابليون وقسموا الوطن العربي إلى دويلات مصطنعة صغيرة لاضعاف القدرات العربية ولتسهيل عملية نهب و سرقة خيراتها الطبيعية و أهمها النفط و الغاز ولا ننسى كذلك أن هيئة الأمم المتحدة التي أصدرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 اعترفت بدولة (إسرائيل) وأنكرت حق الشعب الفلسطيني في الوجود فأصبح مشردا مطرودا من أرضه بلا وطن ولا هوية وأمريكا التي تتزعم اليوم، الدفاع عن أوكرانيا التي كانت حقيقة جزءا من الاتحاد السوفياتي، هي التي اعترفت بالكيان الصهيوني 5 دقائق بعد اعلان قيام اسرائيل في 14 مايو 1948 و كانت سببا في النكبة منتهكة بذلك العرف الدولي بخصوص الاعتراف بالدولة الجديدة وأمريكا التي أزعجها استعمال روسيا لحق الفيتو داخل مجلس الأمن هي التي استعملت هذا الحق عشرات المرات لعرقلة قراراته الصادرة ضد اسرائيل كما ظهر تواطؤ أمريكا مع اسرائيل عندما عارضت في 19 مارس 1948 صدور قرارعن مجلس الأمن يتضمن اتخاذ الاجراءات التنفيذية لضمان حقوق الشعب الفلسطيني ضد سياسة التوسع أثناء حرب 5 يونيو 1967 فأعلنت أمريكا صراحة مساندتها لاسرائيل وأعطتها الضوء الأخضر لكي تبدأ الحرب و قال الرئيس الأمريكي كلينتون أمام الكنسيت الاسرائيلي في 27 أكتوبر 1994:” رحلتكم هي رحلتنا وأمريكا الى جانبكم الأن وعلى الدوام” واستطاعت أمريكا الغاء قرار الأمم المتحدة الذي يعتبرالصهيونية معادلة للعنصرية و ظلت أمريكا على الدوام تشجع اسرائيل على المذابح الجماعية و قتل أطفال فلسطين وهدم المنازل و تهجيرالسكان الأصليين من ديارهم.
و تقوم السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط و الخليج العربي على عزل و منع أي دولة عربية من لعب أي دور سياسي أو عسكري حتى تبقى اسرائيل هي المتفوقة و البقاء على الحدود المرسومة حسب اتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة التي قسمت الوطن العربي الى دويلات مصطنعة لاضعافها عسكريا و سياسيا واقتصاديا و لابقاءها دوما مرتعا للشركات الأجنبية الأمريكية و الأوروبية ، و كانت اسرائيل و منذ نشأتها تسعى بشتى السبل و الوسائل كي تقيم علاقات علنية مع الدول العر بية و الاسلامية ليس من أجل التعاون بل من أجل احتوائها و السيطرة عليها سياسيا و اقتصاديا مستغلة في ذلك التغيرات الاقليمية والعالمية خاصة بعد توقيع مصر و الأردن لاتفاقيتي كامب ديفد عام 1977 و وادي عربة عام 1994 و مما شجع اسرائيل على التطبيع هو تساقط أنظمة مركزية و صراع دول الخليج مع ايران الأمر الذي جعل اسرائيل تحصد ثمارا ديبلوماسية هي في الحقيقة اتفاقات تطبيع مع بعض دول الخليج و في هذا الاتجاه تأتي زيارة “جو بايدن ” الى المنطقة العربية لتثبيت أقدام أمريكا في المنطقة بعد اهتزازات عرفتها المنطقة كان لها أثر سلبي على العلاقات الأمريكية الخليجية وهي لا تسعى الى اقامة أنظمة ديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان كما تزعم بل من أجل حماية مصالح أمريكا الاقتصادية والسياسية برعاية اسرائيل حارسها في المنطقة العربية، و ظل الرئيس ” دونالد ترامب” يدافع عن المملكة السعودية لكنه تساءل عن استمرار أمريكا في الدفاع عن النفط السعودي الذي يباع للصين و الدول الأسيوية و ليس لأمريكا و أوروبا و بدأ التفكير في اعادة النظر في الأموال التي تنفق والجنود الذين تذهب أرواحهم للدفاع عن مملكة دينية لا تشترك مع القيم الأمريكية.