بقلم: الديبلوماسي المغربي الدكتور عبد القادر الزاوي
لا أحد يستطيع أن يناقش القرار الذي اتخذته الجزائر يوم 24 أغسطس 2021 بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب. فهي كدولة ذات سيادة لها الحق في اتخاذ ما تراه مناسبا لعلاقاتها مع الدول الأخرى، تطورها أو تتركها عادية مع هذه الدولة، تجمدها أو حتى تقطعها مع تلك.
وكان بالإمكان إقفال الموضوع على الأقل من الجانب المغربي من خلال الاكتفاء بما ورد في بيان وزارة الخارجية المغربية، التي أعلنت أنها أخذت علما بالقرار الجزائري غير المبرر والمنتظر، وتأسف لاتخاذه ؛ ولكن بما أن وزير الخارجية الجزائري السيد رمطان العمامرة أبى في الندوة الصحفية التي عقدها لإعلان القرار إلا أن يعزوه إلى مجموعة من الأسباب حصرها في تسع نقاط، فمن الضروري الرد على تلك الأسباب وما تضمنته من مغالطات تاريخية يمكنها تضليل الرأي العام الدولي والإقليمي المتابع للتطورات في المنطقة المغاربية.
إن هذا الرد يفترض أن يصدر عن جهات رسمية مغربية، سيما وأن بيان الوزير الجزائري لم يتورع دون خجل في اعتبار كل ما قام به المغرب مع الجزائر على مدار حوالي 60 سنة “أعمالا عدوانية دنيئة”، ولم يكلف نفسه عناء تذكر ولو سلوك أخوي واحد للمغرب رغم أن الأيادي المغربية البيضاء على الجزائر وشعبها كثيرة قبل استقلال البلاد وبعده أيضا.
1/ تعمد الوزير الجزائري في أول نقطة من بيانه العودة إلى أجواء حرب الرمال لسنة 1963، معتبرا أن المغرب هو من اعتدى على السلامة الترابية لبلاده، في تجاهل تام للأسباب الموضوعية التي دفعت إلى تلك المواجهة، والمتمثلة أساسا في تنكر النظام الذي تسلم السلطة في الجزائر بعد الاستقلال للاتفاق الذي كان قد أبرمه المغرب مع رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس في يوليوز 1961، وفيه اعتراف صريح بوجود مشاكل حدودية سيعمل الطرفان على حلها فور استقلال الجزائر.
2/ إذا كان هنالك من تسامى على الجراح وكتم الغيظ من سياسة نكران الجميل بعد حرب الرمال، فإنه المغرب، الذي أبان عن ذلك عندما بلور مطلع سنة 1969 سياسة عامة لتحسين علاقاته بكافة دول الجوار جسدها آنذاك بطرح فكرة إبرام معاهدة للأخوة والتعاون وحسن الجوار مع الجزائر وترسيم الحدود معها، ثم بالاعتراف بموريتانيا دولة مستقلة، وباستعادة إقليم سيدي إيفني من الاحتلال الإسباني.
3/ إن المغرب لم يقطع علاقاته الدبلوماسية مع الجزائر سنة 1976 بسبب اعترافها وتبنيها لجمهورية المخيمات بدليل أنه لم يقطع تلك العلاقات مع دول أخرى عربية وإفريقية ذهبت ضحية الوهم الذي سوقه لها وزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة. لقد قطع تلك العلاقات ردا على أبشع جريمة إنسانية كريهة اقترفها النظام الجزائري بإقدامه عشية مناسبة دينية جليلة (عيد الأضحى) على طرد آلاف المغاربة من ديارهم ومصادرة ممتلكاتهم، لا لشيء سوى لأنه توهم أن ذلك الفعل الشنيع سيرهق المغرب ماديا إلى جانب عبء مواجهة الانفصاليين الذين أغدق عليهم النظام الجزائري المال والسلاح بكل سخاء.
وبالفعل وتتويجا لوساطات أخوية محمودة سعودية وإماراتية عادت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وفق معايير محددة تضمنها البيان الصادر في 16 مايو 1988. وهي معايير ظل المغرب ملتزما بها إلى يومنا هذا. فالمغرب لم يطالب أبدا بإعادة النظر في اتفاقيات ترسيم الحدود رغم حيفها، وكان هو قائد جهود تأسيس اتحاد دول المغرب العربي، الذي رأى النور على أرضه بمراكش يوم 17 فبراير 1989.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فلا أحد يستطيع المزايدة على الموقف المغربي الثابت والداعم للشعب الفلسطيني في حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. فالمغرب لم يتاجر أبدا بالقضية الفلسطينية كما فعل أولئك الذين حاولوا استغلال مؤتمر إعلان دولة فلسطين يوم 15 نونبر 1988 لإحراج القيادة الفلسطينية والوفود العربية والدولية الحاضرة بإقحام وفد عن جمهورية المخيمات ضمن المدعوين.
واستطرادا لما سبق لا بأس من تذكير الذي يريد أن يرى من التاريخ ما يناسب مغالطاته فقط بأن بالرباط سنة 1974 حازت منظمة التحرير الفلسطينية صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن لواء رئاسة لجنة القدس معقود للملكية المغربية منذ أزيد من أربعة عقود دون تشكيك من أحد من أعضاء اللجنة بمن فيهم أكبر الدول معاداة للمغرب، وفي مقدمتها إيران.
4/ من الواضح أن الوزير الجزائري في بيانه المسهب اختلطت عليه مواقع البلدين، إذ العكس هو ما حصل عبر التاريخ، فالمغرب هو الذي امتنع عن التدخل في الشؤون الجزائرية، وكان بإمكانه ذلك بسهولة خلال العشرية السوداء في التسعينات، بل إنه لم يتردد ولم يساوم السلطات الجزائرية، التي كانت بالكاد حينها تسيطر على العاصمة وبعض المدن الكبرى وسلمها أحد أكبر المطلوبين لديها المدعو عبد الحق العيايدة، فيما حادثة أمغالا سنة 1976 خير شاهد على تورط الجيش الجزائري في معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، وشهادة مسؤولي مصر آنذاك خير دليل.
وبمنطق “ويل للمصلين..” توقف الوزير رمطان العمامرة وأسس ما أراد أن يقول على رد فعل موظف بدرجة سفير لم يمارس سوى حق الرد المكفول له في محفل دولي، وتجاهل عن عمد يد السلام الممدودة من أعلى سلطة في المغرب في خطاب العرش لسنة 2021.
5/ لحاجة في نفس يعقوب أسس الوزير الجزائري على تصريح عابر لوزير خارجية إسرائيل اتهاما مجانيا خطيرا وغير مسؤول حين اعتبر أن أرض المغرب غدت “قاعدة خلفية ورأس حربة لتخطيط وتنظيم ودعم سلسلة من الاعتداءات الخطيرة والممنهجة ضد الجزائر”، وأن ذلك يعد انتهاكا للمادة الخامسة من معاهدة الأخوة وحسن الجوار والتعاون المبرمة بين البلدين.
ومرة أخرى لابد من تذكير ذوي الألباب إن كانت لهم ألباب أصلا بأن أكبر خرق للمادة المذكورة اقترفه أولئك الذين يأوون حركة انفصالية على أراضيهم ويمدونها بالسلاح والمال، ويشجعونها على الاعتداء على تراب الجيران، في انتهاك صارخ أيضا للمادة 15 من معاهدة إنشاء اتحاد دول المغرب العربي، التي تعهدت الدول الأعضاء بموجبها “بعدم السماح بأي نشاط فوق ترابها يمس أمن أو حرمة تراب أي منها أو نظامه السياسي”.
6/ تناسى الوزير الجزائري وهو الدبلوماسي المحنك أن فرض التأشيرات أو الإعفاء منها يدخل في صميم أعمال السيادة لأي دولة. فدول الاتحاد الأوروبي حين قررت سنة 1986 فرض التأشيرة على مواطني الدول المغاربية لم تستشر أيا منها رغم ما سببه ذلك القرار آنذاك من مشاكل للعديد من المغاربيين.
والواضح من الحديث عن وجود مؤامرة في الحرائق التي اجتاحت ولايات عديدة في الجزائر أن السيد الوزير خريج مدارس نظريات المؤامرة، ذلك لأن تلك الحرائق اجتاحت العديد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط بما فيها المغرب، وأن كل الدول تعاملت معها بما لديها من إمكانيات دون الإشارة إلى أي تآمر خارجي أو داخلي في إشعالها. وحدها الحكومة الجزائرية التي بدت عاجزة عن مواجهة النيران عمدت إلى إخفاء تقاعسها في توفير الإمكانيات الضرورية عن طريق توزيع اتهامات مجانية لمنظمات محلية ثم لأيادي أجنبية حصرتها في المغرب وحده.
7/ نعم كان المغرب هو أول من طرح فكرة استفتاء ساكنة أقاليمه الجنوبية في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بنيروبي سنة 1981. ولكن في الوقت الذي تعاون المغرب مع لجان تحديد هوية من يحق له المشاركة في الاستفتاء، عمل ممثلو جمهورية المخيمات بإيعاز من الجزائر على عرقلة أشغال تلك اللجنة ؛ الأمر الذي دفع الأمم المتحدة إلى الإقرار باستحالة تنظيم الاستفتاء والتنصيص في مختلف قراراتها على ضرورة البحث عن حل آخر متوافق عليه بين الأطراف.
لقد كان طريفا من شيوخ جمهورية المخيمات أن يقبلوا في لوائح المرشحين للتصويت على الاستفتاء المرحوم عبد العزيز المراكشي، ويرفضون والده.
8/ إن اتحاد دول المغرب العربي ابن شرعي للدبلوماسية المغربية بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني، الذي استضاف حفلة ميلاده في مراكش، ووفر لأمانته العامة مقرا دائما في الرباط ما يزال يشتغل إلى الآن، وحث الأجهزة البرلمانية المختصة على المصادقة على معظم الاتفاقيات المهيكلة للاتحاد، وتلك الهادفة إلى زيادة أوجه التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري رغم وجود قوانين اشتراكية آنذاك في دول كالجزائر وليبيا مخالفة للتوجه اللبرالي لغالبية البلدان المغاربية، وكانت تحد من انسيابية تبادل السلع والخدمات وانتقال البشر، الذي قررت الجزائر منفردة منعه نهائيا بقرار إغلاق الحدود البرية سنة 1995.
9/ في مغالطة مكشوفة أشار الوزير الجزائري في النقطة التاسعة إلى أن المغرب قوض بصفة آلية ودائمة قاعدة التوافق التي ارتكزت عليها العلاقات الثنائية، متجاهلا مرة أخرى أن المغرب كان السباق دائما إلى تقديم التنازل تلو الآخر ثنائيا ومغاربيا بحثا عن بناء منظومة إقليمية تكون سندا وعونا لكل دوله في تعاملاتها مع دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. والأخطر من ذلك أنه تأسيسا على ما سبق ضمن بيانه تحذيرا مبطنا للمغرب حين أراد تحميله ما أسماه جر “شعوب المنطقة إلى الخلاف والمواجهة”.
إن يد المغرب مدت علانية وفي مناسبة وطنية متميزة إلى السلام والحوار لتجاوز المشاكل العالقة، ولكن إذا ما فرضت عليه المواجهة فلن يتردد المغاربة أبدا في الذود عن بلادهم ووحدتها الترابية، فهم في أتون مواجهة الانفصاليين منذ أزيد من 45 سنة، ولم ولن يتعبوا من ذلك.