بقلم الدكتور إسماعيل فيلالي
على سبيل التقديم:
من واقع مدينة أحفير المغربية الرابضة في ركن من أركان الجهة الشرقية للمملكة المغربية، بالقرب من البحر المتوسط والحدود الجزائرية؛ اختار الصحافي عبد القادر بوراص أن يعود إلى ماضيها لكي ينسج مجموعته القصصية “مضارب الشقاء”. وقد تفاعل الكثير من القراء والمثقفين والدارسين مع أحداث هذه المجموعة لأنها تؤرخ لزمن ما ومكان ما من الجهة الشرقية من جهة، ولأن كاتبها يفرض حضوره اليومي من خلال مقالاته، سواء في الصحف أو في المواقع الإلكترونية من جهة أخرى، ولعل هذا ما جعل الكثير من القراء يطرحون السؤال:
كيف يستطيع الصحافي عبد القادر بوراص أن يوفق بين الكتابة اليومية في الصحافة وبين الكتابة الأدبية؟ وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة التذكير بالعلاقة التي كانت ولا تزال وستظل تربط بين الصحافة والأدب قبل الخوض في قراءة هذه المجموعة القصصية…
الصحافة والأدب:
يحتاج الحديث عن الصحافة والأدب إلى مجلد كبير لكي نلمّ بكل ما قيل حول هذه العلاقة من لدن النقاد والأدباء والدارسين؛ فبينهما أوجه اختلاف كثيرة: فالصحافة تقوم كما هو معلوم على جمع وتحليل الأخبار، والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للقراء، وهي تتعلق بمستجدات الأحداث الداخلية أو الخارجية، تتناول شتى جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والرياضية والبيئية… وما يكتبه الصحفي يستند إلى وقائع وأحداث حقيقية وأناس حقيقيين، ويتطلب منه ذلك الحضور اليومي، عكس الأديب فهو يعمل في هدوء بعيدا عن الضجيج، ويحتاج إلى التأمل والسكينة ليركب صهوة الخيال لإبداع النص الفني وصقله وتقويمه ليقدمه للقراء؛ وفي المقابل ثمة أوجه تشابه وروابط وقواسم مشتركة عديدة تجمع بينهما، فالصحافة ستظل مدرسة كبيرة لتكوين الكثير من الأدباء، كما أن الأدب سيظل ملاذا خصبا للبوح للكثير من الصحافيين… فالصحافة، بمفهومها الحديث حرفة أو مهنة لها أصولها وقواعدها ويمكن تعلمها. أما الإبداع الأدبي، فإنه موهبة فطرية، يتمتع بها قلة نادرة من الناس.
الصحافة والأدب نوعان من الإبداع اللفظي، ولكنهما يستخدمان أدوات تعبيرية مختلفة، وأساليب لغوية متباينة. وإذا كان من الممكن كتابة المقال الصحفي خلال بضع ساعات، فإن النص الإبداعي يستغرق وقتا أطول من ذلك، فالصحفي يرى ثمرة عمله في الحين، أما الأديب فإنه ينتظر شهورا أو سنوات لإصدار كتاباته الإبداعية. الخبر الصحفي يتقادم بسرعة. أما الأدب فلا يتقيّد بالزمن، فقيمته الحقيقية تكمن في مستواه الفكري والفني. وما يبدعه الأديب يظل حياً ومقروءا لعشرات وربما لمئات السنين…
وفي محاولة لتحديد علاقة الأدب بالصحافة، يقول الكاتب والصحافي المصري محمد يوسف القعيد: “في الصحافة كما في الأدب المادة واحدة هي الكلمة المكتوبة، لكن ما أبعد المسافة بين كلمة وأخرى، ففي الصحافة: الكتابة لغة.
وفي الأدب: الكتابة خلاص. في الصحافة أكتب لأن هناك بيتا وأولادا ومطالب للحياة اليومية، ولأن الدخل أقل من الإنفاق. ولكن في الأدب أكتب لأن هناك هما أو أرقا أو مشكلة، الرغبة في البوح هي الدافع…”. ويقول الأستاذ محمد حسنين هيكل عن هذه العلاقة: “الصحافة رزق يوم بيوم، والأدب رحيق الجمال بين صفحتي الأزل والأبد، الصحافة توجيه الحاضر لما نعتقده المنفعة، والأدب تصميم المدينة الفاضلة، والتغني بذكرها تمهيدا لإقامتها وتشييدها”. أما الروائي الأمريكي أرنست همنغواي، فقد كانت له عبارة شهيرة رددها من بعده جارسيا لوركا ماركيز: “الصحافة تناسب الروائي كثيرًا جدًا بشرط أن يعرف متى يعتزلها…”.
ويمكننا أن نستعيد أسماء الأدباء الذين شغلوا مراكز ريادية في الصحافة العالمية والعربية، فمن الكتاب العالميين الذين زاوجوا بين الصحافة والأدب، إضافة إلى همنجواي وجارسيا ماركيز، جون بول سارتر وألبير كامي وجورج اورويل وغيرهم كثير…، ومن الأسماء الأدبية العربية الكبيرة التي أغنت الصحافة العربية وطورتها وأثارت انتباه القارئ العربي إليها أحمد فارس الشدياق، جورجي زيدان، أحمد زكي، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، فتحي غانم، الطيب صالح، غسان كنفاني، جمانة حداد ، إلياس الخوري ، قاسم حداد، جمال الغيطاني، إيليا أبو الماضي، محمد الجواهري، أحمد حسن الزيات، طه حسين، محمود العقاد، حافظ إبراهيم، عبد الرحمان شكري، عبد القادر المازني، أمين الرافعي، يوسف السباعي وعبد الكريم غلاب والقائمة طويلة…. هؤلاء بنوا مجد الصحافة والأدب أيضا، وكانوا من كبار رجال النهضة الثقافية العربية في أواخر القرن العشرين. ومع بداية الألفية الثالثة، ظهرت الكثير من الأسماء العربية وتألقت في الأدب والصحافة معا،ً والأمر نفسه في الأدب العالمي، حين زاوج كتاب كبار بين الادب والصحافة….
الأدب والصحافة، إذن، يصبان في مهمة واحدة هي رؤية الحياة بوجهات مختلفة وجديدة، وتأملها بأكثر من وجه، وفهمها على الوجه الصحيح. في هذا السياق، تأتي تجربة الكاتب و الصحافي عبد القادر بوراص، فمهنته الصحافية تلقي بظلالها على تجربته وخبراته الحياتية، ومنها يستمد الكثير من الخصوصيات؛ فهي التي تجعله يتعامل مع الناس يوميا مع مطالبهم ومخاوفهم وآلامهم وإشباع رغبتهم في معرفة الخبر… أما في الأدب فهو يتعامل مع ذاكرتهم الماضية وأمنياتهم وأحلامهم المشتركة، وتلك هي مهمة الكلمة النبيلة…..