د. محمد حماس: باحث في التاريخ والتراث
لا يمكن إغفال، أو بالأحرى إنكار، تراجع الدور الطلائعي الذي ظل يقوم به المثقف لعقود خلت، ذلك المثقف العضوي، بالمفهوم الذي نظر له الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيوغرامشي(1891-1937) … المثقف الذي ظل ملتصقا بقضايا الجماهير، متفاعلا مع همومها ومآسيها. وفي ذات الآن يبدو أن فئة تأتلف لتشكل “مثقفيها” للدفاع عن مصالحها وأيديولوجيتها، إذ لا يتعلق الأمر بمثقف يساري أو يميني، بذلك المثقف الذي يسير في اتجاه ضد آمال الجماهير، لأنه لا يؤمن بحضورها، وبقضاياها، وبتطلعها للتحرر والانعتاق، والتوق للعيش الكريم.
هكذا نجد العديد من أدعياء الثقافة تحولوا للصف الآخر، يعرضون خدماتهم على “الأسياد” ينالوا رضاهم وفتات موائدهم. ومنهم من يستكين للصمت ليمارس دور الحرباء، أو المتغافل، أو اللامبالي. بمعنى أن الحديث عن المثقف يحتاج منا الوقوف عند أشكالهم وتعدد أصنافهم، وهذا لن يتأتى إلا بتحديد دقيق لمفهوم المثقف، ووضع معايير معتمدة لتحديد حقيقة المثقف، والدوار التي هي منوطة به داخل المجتمع الذي ينتمي إليه، وإلى محيطه العالمي، بعيدا عن الذات القاتلة، والأنا مضخمة.
- إدوارد سعيد .. “أنا مثقف أقدم مشاغلي إلى جمهور …”
يفصح إدوارد سعيد عن الدور النوط بالمثقف، فيضرب مثلا بذاته، حيث يعتبر نفسه ذلك المثقف الذي يقدم مشاغله للجمهور، فيطرح السؤال الإشكالي عما يمثله هو نفسه، باعتباره “شخصا يحاول تعزيز قضية الحرية والعدل”. بمنعى أن إدوارد يحدد موقعه كمثقف، والادوار المنوطة به. لأن الهدف الأسمى بالنسبة إليه هو تحقيق الحرية والعدالة. وهو موقف يمثل قناعاته التي يحاول إقناع الآخرين بها. لهذا فهو يرى أنه لا وجود لمثقف “ذي العالم الخاص”، لأنه ما إن ينشر كتاباته حتى يدخل العالم العام، وفي نفس الآن لا يمكن أن يكون المثقف صاحب عالم عام فقط، لأنه لابد من تأثير ما هو شخصي، مع وجود حساسية فردية خاصة، الشيء الذي يضفي معنى على ما يقول وما يكتب. المثقف هو الذي يثير الحرج، والمعارضة، والاستياء. المثقف هو من يمثل موقفا، ويصبو لتحقيق العبرة رغم الحواجز والعراقيل. فالمثقف صاحب رسالة، يمررها من خلال كتاباته، وأقواله، وأفعاله، وتعليم الطلاب، واللقاءات التلفزيونية. فهو يقدم مواقفه للعلن دون كتمان أو سرية، وقد يعرض نفسه للخطر، كما هو الحال مع عدد كبير من المثقفين تعرضوا للاختطاف، والتنكيل، والتعذيب، والقتل، وشتى أنواع الحرمان والمعاناة، بسبب مواقفهم وأفكارهم. والتاريخ البشري يعج بأمثال هؤلاء المثقفين الحقيقيين الذين بقيت أسماؤهم وأفكارهم خالدة. وفي المقابل احتفظت الذاكرة التاريخية بمثقفين سخروا فكرهم وجهدهم لخدمة السلطة ضد مصالح الجمهور، يقتاتون على فتاة موائد الأسياد. وهو أمر لا يمكن وصفه بالفكر السليم، أو الثقافة الصحيحة.
يستحضر إدوارد سعيد نموذج المثقف/المفكر، ذي الرؤية الثاقبة، والفكر المتنور، يضرب مثلا جون بول سارتر، وبرتراند راسل، إذ يسوقان الحجج معبرين عن معتقداتهما، فلا يمكن بأي حال اعتبار، او تصورهما بيروقراطيان أو تابعان، او موظفان مجهولان.
الدراسات كثيرة، تلك التي تتناول المثقف بالتعريف، لكن قليلة هي تلك التي تهتم برصد صورة المثقف الحقيقية، وبصمته الشخصية، ومساهماته، وأدائه، ومواقفه. وفي هذا السياق يقول إزايا برلين عن الكتاب الروس في ق19م “أن الكاتب منهم يقف على المسرح ليدلي بشهادته علنا على الملأ”. فالمثقف كان له دور في الحياة العامة. من هنا، فعندما نضرب مثلا بجون بول سارتر، فإننا نتحدث عن مثقف حقيقي يهتم بموضوعاته، ويقول رأيه عن الاستعمار، وعن الصراع الاجتماعي، زهي مواقف جلبت له الكثير من الغضب من طرف خصومه، وعرضته للعديد من المخاطر. سارتر هو الذي عارض وجود فرنسا بالجزائر والفيتنام. والقارئ لسارتر وحياته، وشخصيته، ومواقف، لابد وأن يقف عن تلك العلاقات التي جمعته بمثقفين آخرين، من أمثال، رفيقته سيمون ديبوفوار، ونزاعه مع ألبير كامي، وارتباطه مع جان جينيه، سوف نجد أن هذه الظروف والعلاقات والمواقف، هي التي جعلت من سارتر ذلك المثقف الحقيقي الذي لعب دوره بوضوح، وليس ذاك المثقف التي يتقمص صفة الواعظ البئيس.
يقترح إدوارد سعيد أن ننظر للحياة العامة الحديثة، على أنها رواية طويلة أو مسرحية، حتى يتسنى لنا إدراك دور المثقف وكيف يمثله، لأنه يمثل حركة اجتماعية، وأسلوب حياة. أي أنه يقوم بدور اجتماعي يتفرد به عن سواه. من هنا يتجلى هذا التصور في عدد من الأعمال، نذكر منها بعض الإصدارات الروائية في القرن 19م، مثل رواية الكاتب الروسي تورجنييف “آباء وأبناء”، والكاتب الفرنسي فلوبير “التربية العاطفية”، والكاتب الإيرلاندي جويس “صورة الفنان في شبابه”… أعمال تنقل الحيلة العامة بتفاصيلها، وتعبر عن رؤية ورؤيا، من خلال الوقائع والشخصيات، وتركيب المشاهد، إبداء الرأي والمواقف.
دور المثقف أن يكون مستقلا، يقاوم تنميط الحياة. فيتوجب على المثقف الارتباط بالقيم الحقيقية. لأنه إن لم يكن كذلك فسوف يبتعد عن الحياة العام، ويزيغ عن الطريق السليم. ويلخص ميلز هذا الرأي في المقتطف التالي من كتابه “السياسة والجمهور” وهو كتاب جدير بالقراءة، لأنه يقارب بشكل كبير طبيعة وصورة المثقف الحقيقي: “يعتبر الفنان والمفكر المستقل من الشخصيات القليلة الباقية المؤهلة لمقاومة ومحاربة تنميط كل ما يتمتع بالحياة حقا وقتله. ونظرة الرؤية الآن تتضمن القدرة على مداومة نزع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر التي تغرقنا فيها وسائل الاتصال الحديثة(أي نظم الصور التمثيلية الحديثة). إن عالمي الفن الجماهيري والفكر الجماهيري، يزداد تسخيرهما لتلبية متطلبات السياسة. ولذلك فلابد من تركيز التضامن والجهود الفكرية في مجال السياسة. فإذا لم يرتبط المفكر بقيمة حقيقية في الكفاح السياسي، فلن يستطيع تلبية متطلبات الحياة الواقعية، بصفة عامة، بمستوى المسؤولية اللازمة”. فالسياسة تحيط بنا من كل حدب، وكل مثقف يحاول تجنبها وتفاديها فهو واهم، فالمثقف ينتمي إلى عصره. فيقوم بنزع الأقنعة عن التنميط الرسمي، وما يتم تسخيره من وسائل إعلام تعطي صورا مغلوطة عن الواقع. فيكون المثقف في موقف الفاضح لهذه الفبركة والبهتان، ويقدم الصور البديلة الصادقة.
لكن هناك بعض الحداث والوقائع التي تتطلب من المثقف إبداء الموقف، فيبقى موزعا بين العزلة والانحياز، منها الموقف السلبي للمثقف إبان الحرب الأمريكية على العراق سنة 1991. فالمثقف الأمريكي لم يقم بدوره لإقناع الجمهور الأمريكي بأن أمريكا معتدية وليست بريئة، وأن لا أحد خول لها القيام بدور الدركي بمنطقة الخليج، أو الهيمنة على العالم.
لهذا يرى ميلز أن هناك فوارق من قوة منظمات ضخمة، من حكومات وشركات، وبين المستضعفين الذين يعتبرون في منزلة ثانوية، كالأقليات والشعوب الصغيرة والدول العاجزة، هذه تحتاج للمثقف كي ينحاز إلى صفها، ويدافع عن قضاياها. فالمثقف بهذا المعنى، ليس داعية أو واعضا مسالما، بقدر ما هو صاحب موقف واضح، يعرض من خلاله حياته للخطروالمضايقات، او حتى الموت.
مهمة المثقف هي الانتباه والحذر، واتباع سبيل الحقيقة، فهو يستمد قوته من كل هذه التعقيدات التي تزيده ثراء نفسيا وذهنيا، فيكسب حب الناس.(يتبع)
الهوامش:
- اعتمدنا في قراءة هذا الكتاب على ما أورده فيه صاحبه، المفكر العالمي إدوارد سعيد، لما يكتسيه من أهمية بالغة، نعرض ملامحه من فكره ونشاطه.
- إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، الطبعة1، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، القاهرة.
- الصور من موقع: https://m.annabaa.org/arabic/authorsarticles/10410