سيرة الكاتب والمدينة:
النص القصصي ليس تصويرا لمشاكل الناس وهمومهم فحسب، بل هو أيضا إعادة كتابة التجربة التي يعيشها الإنسان، ومن زاوية دقيقة تحسن التقاط التفاصيل الزمنية والمكانية والحدثية، وأن المكان في هذه المجموعة القصصية، يكتسب أهميته القصوى، لأنه يتحول في هذه السيرة الذاتية إلى فضاء يحتوي كل العناصر القصصية التي تجمع سيرة الكاتب وسيرة المدينة:
أ – سيرة الكاتب
يعود الكاتب إلى مدينة أحفير بواسطة الكتابة، حيث تملكه الحنين إلى رومانسية المدينة الهادئة والشقية حيث البراءة والحب الإنساني في صفائه وغناه الروحي. ومضارب الشقاء نتاج طبيعي لإحساس الكاتب العميق بالانتماء إلى هذه الأرض التي تربى في أحضانها. إنه يستعيد ملامحها في زمن سنوات مضت اعتمادا على الذاكرة، والذاكرة كما هو معروف ماكرة لا تقول كل شيء، بل ما تعتبره مهما في ذهن المؤلف.
والكاتب لا يعتمد على التاريخ الرقمي لسرد حكاية المدينة، وإنما يستحضرها من خلال اعترافاته وعلاقاته في ذلك الزمن المهم من حياته. وتبدأ رحلة السيرة من مدرسة الكاتب الأولى حين أخذته امه مكرها إلى الكازير (الثكنة العسكرية) التي كانت توجد بها حجرة دراسية حيث يشرع في تلقي أولى أبجديات القراءة من (ص 51 إلى ص 58)، و وأثناء سرد الأحداث نتعرف على تقاسيم الشقاء التي عاشها الكاتب في هذه المرحلة.. “لم اكن انتعل غير صندلة بلاستيكية تعرف عندنا ب “الصاباطا”، ربطت أسفلها بسلك حديدي بعد أن تمزق جزء منها…” الرواية (ص 51)، نعم كان “الفلوس” كما كانوا يلقبونه يعيش زمنا شاقا نظرا للفقر الذي كان يعيشه حيث كانت تتحول خدوده الصفراء الذابلة بسبب سوء التغذية إلى وردية حمراء بعد الصفعات التي كان يوجهها له معلمه الشرس السي المقري… الذي كان يمارس عليهم شتى أنواع التعذيب (ص 56)، و من تجليات الشقاء أنه لم يكن يلتحق بمنزله بعد انقضاء فترة الدراسة الصباحية حيث كان يمكث و “الكثير من زملائه بمحيط مقر القاضي المقيم المحاذي ل “الكازير” في انتظار أن يفرغ الجنود من تناول وجبة الغذاء ليوزعوا علينا ما فضل عنهم من طعام..” (ص 57 / 58)، وفي هذه المرحلة الابتدائية يتحدث أيضا عن دراسته سنة واحدة بمدرسة سيدي زيان، أقدم مدرسة 1907 بالجهة الشرقية بمدينة وجدة، وبعدها مدرسة أبي العلاء المعري الموجودة بأحفير 1910، وقد أتى على ذكرها في سياق غير تراتبي ليترك المتلقي يرتب تفاصيل هذه السيرة التعليمية… بعدها ينتقل الكاتب للحديث عن الكوليج المرحلة الاعدادية (ص 59) حيث سيتابع دراسته بالمدرسة الأهلية كما كان يسميها المستعمر… أي كوليج أحفير الذي سيتغير اسمه بعد الاستقلال إلى اعدادية سيدي محمد بن عبد الرحمان…. وفي هذه المرحلة يحكي عن مواد التدريس والمدرسين الذين كان أغلبهم من جنسية فرنسية (ص 60 / 61 / 62).
المرحلة الثانوية لم يتحدث عنها كثيرا ويكتفي بالإشارة إلى أنه تابعها بثانوية عبد المومن بوجدة (ص 57)… وكالعادة ومن دون ترتيب كرونولوجي، ينتقل الكاتب إلى الحديث عن نتائج الشهادة الابتدائية التي كانت تنشر داخل المؤسسة بخط السي عثماني (ص 74)، ومن دون أن تعرف أطوار وتفاصيل السيرة التعليمية، ينتقل بنا إلى الإعلان عن نتائج البكالوريا في صحيفة العلم والمحرر ليجد اسمه يتصدر أسماء الناجحين، ويخبر أمه التي كانت فرحتها عارمة… (ص 74)، بعدها سيصبح أستاذا ويعين بإقليم الحسيمة بمدينة تاركيست (ص 74 / 75)، وهنا ستبدأ سيرة جديدة، بعيدة عن مدينة أحفير، في منفى حقيقي، على حد تعبيره، تفتقر فيه هذه المدينة لمقومات العيش الكريم، وهي مدينة المخدرات بامتياز…، وبالرغم من تعاطي بعض زملائه لهذه المادة السامة، إلا انه لم يسبق له أن تعاطى للمخدرات بالرغم من إقامته مع أستاذين مدمنين عليها (ص 75). لكنه في مقابل ذلك سيكون من الذين يرتادون عالم الخمر وارتياد فنادق الدعارة التي كانت تعج بها المدينة، والمداومة رفقة بعض أصدقائه، خارج أوقات العمل، على مراقبة حافلات السدراوي للظفر ببضاعة جنسية جديدة قادمة من الغرب لتكون بديلة لحفيظة المكناسية….. وهنا ستبدأ رحلته مع “البراطا” التي لم يستطع لعبها في مدينة وجدة في عمارة المومسات بالقرب من مدرسة سيدي زيان أو بحي أهل الجامل زنقة 42 الذي كانت فيه بائعات الهوى يستقبلن الزبائن بمقابل 10 دراهم، والتي لم يستطع توفيرها آنذاك (ص 44 / 45). وتلك سيرة أخرى، فيها من البوح والاعتراف الجريء، وهنا نجد الكاتب أقرب الى صاحب “الخبز الحافي” محمد شكري الذي كان يسمي الأشياء بمسمياتها…
أما سيرة الحب عنده لم تكن لتتعدى سطورا قليلة عن محبوبته نعيمة التي كانت تقطن “بغار الجيفة”، والتي لم تتجاوز العلاقة تبادل النظرات حينما يمر هو و رفيقه الولهاصي بهذا الحي، لتتزوج بعدها وهي في سن السادسة عشرة من عمرها (ص 88)….
وبعد أكثر من ثلاثة عقود بالعاصمة الرباط، يلتقي الكاتب تلميذه بوعروة، مروج المخدرات بتاركيست، والذي كان ينعته “بالكانبو” لكونه لم يكن يتعاطى هذه المادة السامة… بوعروة أصبح ذا مال وجاه بفضل اتجاره في المخدرات، وأصبح يمتلك سيارة رباعية الدفع ووسيما، لم يعد أنفه معقوفا ولا شاحب الوجه، بوعروة أصبح أستاذا من نوع خاص، وهذا ما قاد الكاتب ليستنتج أن كل” واحد و قرايتو” (ص 78 / 79)…..