بقلم الدكتور إسماعيل فيلالي
1 – الذكريات
الذكريات هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتغلب به الانسان على هذا الزمن الأغبر، لأنه يؤكد لنفسه و لغيره بها أنه لم يكن مجرد عابر لهذه الحياة، وأن هذه الذكريات هي التي تجمع شتات هذه الحياة بين الماضي والحاضر والمستقبل، هذه الذكريات هي التي حركت كيان الكثير من الكتاب والأدباء لملمة الكثير من أسرارهم في الحياة، ومنهم الكاتب عبد القادر بوراص لتعود إليه في برج الأناقة، ويحتفي بها رغم شقاوتها، بعد أن بحث عنها في زوايا مدينة أحفير / أرض الصيحة الأولى، ذكريات مليئة بالأوجاع و الشقاء محفورة في ذاكرته، تستعصي على النسيان، و درغم شقاوتها تتحول بقلم الكاتب إلى عالم جميل فيه الكثير من الفرح ولو كانت مؤلمة، ومن خلال استرجاعها يعترف بقيمتها لمواصلة الحياة… يقول في إهدائه الخاص: “كثيرة هي القصص التي تحيي في نفسي رغبة الحياة والانبعاث، لكن أكثرها ملامسة لأعماق قلبي تلك التي ترتبط بالذكريات.. المكان الذي ولدت فيه وكيف أمضيت طفولتي الشقية، وكل هذا اللغو والتناقض الذي تعودناه في مسقط راسي بتلك البلدة الحدودية لقد تحركت في دواخله لك الذكريات التي عاشها و نجت من محاولة القتل، وفي أول فرصة ها هي تعود وتطفو على صفحة العقل والقلب فاحتفى بها بهذه الوثيقة التي ستبقى من خلالها خالدة في أذهان كل من عاشها وقرأها، وبذلك تواصل طريقها إلى المستقبل… وهي تجمع العديد من صور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلدة، ومن خلالها لكثير من أبناء القرى والمدن المغربية التي عاشت كل هذا الشقاء. وهي بهذا تؤرخ لوضع اجتماعي واقتصادي وثقافي؛ وفي هذه الذكريات يجتمع الأسلوب القصصي والنقد الاجتماعي، وهنا يتساكن الصحافي والأديب… فهو يروي لنا جزءا من حياته كما عاشها إيماناً منه بأن هذا الصدق في البوح هو الذي يحيي في نفسه رغبة الحياة، ويمده بالقوة لمقاومة رتابة الزمن الذي يعيشه… هذا النبش في الذاكرة بين الماضي والحاضر، يتمحور بين المتخيل والحقيقي…. و قد بقيت هذه الذكريات منحوتة في دواخله ودفعته إلى تذكر هذه المضارب الشقية التي ستتحول عنده إلى لحظات جميلة، حتى وإن كانت مؤلمة في الزمن الماضي، لأنها ستبقى لها نكهة خاصة، حيث جمعته بأشخاص يحبهم و ديحبونه، كما ينص على ذلك في الإهداء: “أقدم هذا الكتاب وفاء واعتزازا لجميع أفراد أسرتي وإلى ذكرى المرحومة والدتي حليمة النجاري، وإلى كافة أهل أحفير، مع محبتي الدائمة…”. (مضارب الشقاء ص 4). كما أنها تجعله أمام أماكن لم يعتبرها في بداية الأمر مهمّةً، ولكن عند التذكر أصبح يشعر بقيمتها، ومدى تأثيرها، وهو يأمل أن تعود من جديد، لأنها ما زالت تنبض بالحياة…، وهذا الاسترجاع هو الذي يفسح المجال لاستمرار الذاكرة إبداعياً التي ظلت تواكب الإبداع منذ القدم، ولولا الذاكرة لما تولدت هذه الآداب وهذه النصوص الخالدة…
الذكريات، إذن، هي جزء من السيرة لا السيرة بكاملها، ولأن هذه الأخيرة تحتاج إلى ما يتعدى التذكر والاسترجاع، أي أنها تحتاج إلى التدوين شبه اليومي والاستحضار التفصيلي للوقائع والظروف والأحداث كما سنرى… وهو أمر لا توفره الذكريات…
ذاكرة الشخصيات
الأحداث والشخصيات، في مضارب الشقاء، هي من صميم الواقع، وليست من عالم التخييل، كما أن الأزمنة والأمكنة المؤطرة للنص، هي من صميم الذاكرة، فالكاتب يحكي جزءا من سيرته الذاتية المشتركة التي قضاها بمدينة أحفير.
والشخصيات التي حكى عنها هي شخصيات واقعية عايشها، وروى تفاصيل حياتها كما عاشتها ، ومن هذه الشخصيات عيشة، الحاج الهواري (فوفو)، الحاج محند، مرياطو أمير القبور والشقاء، رقية ميميس والخامسة البوهالية، الطبيب كارازا، الأستاذ فيدي (موكا)، الفقيه سي علال، المعلم سي المقري، السي عثماني، السي الخضير الحلاق وزوجته ميمونة وابنتهما رشيدة وحبيبها عثمان والولهاصي رفيق الكاتب وأحد معالم حارته الذي كان يعرف كل صغيرة وكبيرة في المدينة….، شافية وزوجها الوزاني الخياط التقليدي وابنهما سليمان، الفقيه السي العلامي، عمر لمروبل (الخباز) ورجل التعليم المتقاعد… وغيرها من الشخصيات التي أثت الغرف النصية للمجموعة…
إن الشخصيات في مضارب الشقاء ليست أحادية الصورة بل إنها متعددة الأبعاد. كما نلاحظ أيضا حضور تعدد الشخصيات التي تتحكم في الأحداث، وقد أصاب في هذا الجانب، حيث جعل الشخصيات تتقاسم الأدوار لتساهم في الأخير في صنع النسيج القصصي من جهة، ومن جهة أخرى تتجمع هذه الشخصيات لتساهم في عملية التذكر، وخاصة تذكر تفاصيل الشقاء الذي عاشته هذه الشخصيات الاستثنائية، وفي هذا تظهر موضوعية المجموعة القصصية وعدم نزوحها إلى نمذجة الشخصيات الأحفيرية التي تبدو بسيطة لا تعقيد فيها، باستثناء شخصية الأم التي لها مكانة خاصة لدى الكاتب، لذلك سنفرد لها مقالا خاصا. كما تتجلى في مضارب الشقاء خاصية الاختلاف والتباين بين
الشخصيات، التي هو معادل لاختلافها في الحياة، بحيث نلمس أن الكاتب يحاول أن يشخص أعطاب مجتمع متخلف من خلال تركيزه على صور غارقة في القتامة والعزلة والشقاء وتحت أسماء شخوص عديدة من الرجال والنساء والشباب.
“مضارب الشقاء” صورة لشخصيات واقعية، وأحداث ووقائع تضرب بجذورها إلى ماضي بلدة منسية حجزت لها مساحة أرضية ضيقة بين الحدود المغربية الجزائرية، لتنسج تاريخا للمدينة، بمختلف جوانبه: اجتماعيا، فكريا وتجاريا. وتستحضر بعض الظواهر الاجتماعية من خلال رصد عدد من الأعراف والطقوس والعادات، تم عرضها بلغة القاموس السائد آنذاك، بعض من ألفاظه انقرضت والبعض الآخر في طريقه إلى الانقراض كالمنسج والمدرة والقرداش والمغزل والقردية والبوش، كما أنه من خلال هذه الشخصيات يعرض لقضايا اجتماعية كثيرة منها ظاهرة التفكير الخرافي والبدع والطرق الصوفية وظاهرة التسول التي كانت ولا تزال تنخر المجتمع وتحد من تطوره وتقدمه بصفة عامة…..