ادريس هابي
فقدنا وفقدت الجهة الشرقية من المغرب وعاصمتها مدينة وجدة مواطنا من الوزن الثقيل نصاحب أخلاق وفضائل هي من مميزات أرباب النفوس الكبيرة التي تتوق دائما إلى الأسمى وتأنف عما يشينها أو يمس كرامتها… عرفته الحركة الوطنية في مستهل شبابهن فأعطاها كل جهده في إخلاص منقطع النظير وتفان عز مثيله، ولما آنس منه مناضلو حزب الاستقلال الذي انتمى إليه واصطفاه دون سائر الأحزاب الشغف الكبير بالوطن والطموح غير المحدود إلى استقلال وحرية البلادن طوقوه بمسؤولية تسيير فرع وجدة وتبعة تمثيله لدى القادة في العاصمة الرباطن فنهض بالمأمورية على الوجه الأكمل، ولم يكن ذلك سهلا ميسرا لأن الظروف التي كانت سائدة آنذاك كانت في أشد الحرج والمؤامرات التي كانت تحاك وتدبر في الخفاء للإساءة إلى محمد الخامس ملك البلاد ولترسيخ وتثبيت أقدام الاحتلال كانت في أوجها.
وحل شهر غشت من سنة 1953، واشتد الصراع بين الخير الذي يرفع رايته الوطنيون ممثلا في انعتاق البلادن واسترجاع السيادة للوطنن والكرامة للمواطنينن وبين الشر الذي يتمسك به المستعمرون، يؤازرهم شرذمة من العملاء المغاربة الذين باعوا دينهم بأبخس ثمن، وتنازلوا عن هويتهم مقابل وعود كاذبة، فما كان من المسؤولين في الحزب بوجدة، وفي طليعتهم المرحوم عبد الله الزجلي، إلا أن يشمروا عن ساعد الجد ويفكروا فيما ينبغي الإقدام عليه لمؤازرة عاهل الوطن الذي يعيش في محنة ما بعدها محنة، ويلقوا في روع المحتلين أن المغاربة عن بكرة أبيهم على كلمة واحدةن في صف واحد متراص منيع للدفاع عن البيضة وإجلاء الخصوم مهما غلا الثمن، ومهما بلغت التضحيات، واستقر الرأي في آخر المطاف على القيام بمظاهرة غير سلمية يشارك فيها جميع ساكنة وجدة يوم الأحد 16 غشت 1953 .
وفعلا انفجرت المظاهرة إياها بحماس منقطع النظير، وكان لها الأثر لحسن في نفس ملك البلاد، وكانت هي الشرارة الأولى التي اقتفت أثرها مثيلات لها في شتى جهات المغرب، وكان لها الوقع السيء في نفوس رؤوس الاحتلال الذين ثبت لديهم وأيقنوا أن ساعة رحيلهم قد دقت، وأن عليهم أن يسلموا الأرض إلى أهلها.
فقيدنا رحمه الله كان نقي السريرة طيب النفس يحمل في قلبه الود لكل من كانت له به صلة أيا كانت هذه الصلة وكان ذا رأي ثاقب يحسب للعواقب حسابها وبعد نظر لا يخفى على أحد،وكان من شيمه أن يسعى ما وسعه السعي إلى أن يحظى المغرب بمكانة سامية بين الأقطار جانبه مهاب وكلمته مسموعة وخيراته البرية والبحرية وما تحت الثرى في متناول جميع المغاربة في غير محاباة ولا تمييز،وكان بيته منذ البدء مثلما كان بيت الأرقم ابن أبي الأرقم عند ظهور الإسلام يجتمع فيه رفقاؤه في الكفاح يغمرهم بحبه وحسن معاشرته وكرم ضيافته،ورغم تقدمه في السن في الأعوام الأخيرة كان لمشاركته في الحوار الثقل المعهود والسداد المألوف في غير كلل ولا ملل، وقد وفقه الله إلى إبداع كتاب يؤرخ للجهاد السياسي الذي كان سائدا قبل استفحال الأزمة، وللمقاومة المسلحة بعد اندلاعها فيه غير قليل مما ينبغي أن تعرفه الأجيال المتعاقبة عن وطنها وإبطال بلادها الذين كانوا يرفعون شعار:الشهادة في سبيل الدين والوطن أحلى وأعذب من العيش في كنف الرق والذل.
هذا، ولقد وددت لو حضر جنازة الحاج عبد الله الزجلي وفد رسمي يمثل الحكومة الرسمية، وآخر رفيع المكانة والدرجة يمثل حزب الاستقلال ووفد ثالث محلي يمثل الجماعة الحضرية لمدينة وجدة تمثيلا لا فرديا، ولكن رسميا،كل ذلك تقديرا لفضل الفقيد ومنزلته واعترافا بما أسدى لوطنه من أيادي بيضاء وما قدم من تضحيات لا يجرؤ على تقديمها في الظروف الحرجة إلا من عمر الإيمان قلبه وملأ حب الوطن فؤاده وزكى الله نفسه تزكية ترقى بها عن مواطن السوء ومظان البهتان. ألا إن فقيدنا يستحق كل تقدير وتبجيل، أليس هو واحدا من تلك الزمرة الطيبة التي أرقت الاستعمار، وحالت بين المستعمرين وبين أن يعيشوا في أمن ورغد عيش وراحة بال فسلطوا عليهم العقاب، وحكموا عليهم بالإعدام والطرد من الدنيا، وقبل ذلك الأعمال الشاقة التي لا تطيقها الأبدانن ولا تستسيغها النفوس، فاستقبلوا كل ذلك وما أقساه بصدور رحبة ونفوس مطمئنة.
رحم الله الفقيد الأثير الحاج عبد الله الزجلي وأسكنه الفردوس الأعلى فإنه به لجدير وله أهل إن شاء الله، ولا غرو فقد أعطى لدينه ووطنه ولأهله وللمواطنين ما تقربه العين وينشرح له الصدر، ونسأل الله الكريم أن يلحقنا به وبخلاننا الذين سبقونا إلى رحمة الله ونحن على العهد غير زائغين ولا منحرفين، وليس عليه ذلك عز وجل بعزيز ولا مستحيل.
ولا نملك في النهاية إلا أن نهنىء فقيدنا العزيز وأستاذنا في الوطنية بالوعد الصادق الذي قال به رسول الله صلوات وسلامه عليه الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله فقد طال عمره وقارب العشرة عقود وحسن عمله وأداؤه ونحن على ذلك من الشاهدين.