ذ. محمد حماس(باحث في التاريخ والتراث)
- تقديم الترجمة الفرنسية
تزخر الإسطوغرافيا (L’historiographie) المغربية بعدد من الكتب المرجعية، غالبا ما يتم ذكرها حيث لا يتم استعمالها بشكل منتظم، مثل Chénier، الذي ناذرا ما نصادف استعماله، أو G.Host الذي تحول اللغة دون قراءته. ويعتبر عمل Leonard Karow ذو أهمية بالغة، رغم كونه غير معروف أو متداول، فلا يظهر إلا ناذرا في القليل من الدراسات، من هنا جاءت هذه الشهادة متواضعة، اعتبارا للروابط القائمة بين ألمانيا والمغرب بداية هذا القرن.
لا شيء أكثرا مثارا للاهتمام من النجاح الذي حققه الكتاب، وهو أمر محمود جدا، ولو أنها أهمية محدودة رغم ما تقدمه من إغراء مذكرات “ولتر هريس” Walter Harris، المغربي المختفي، والعتمة التي تخبئ كل تلك الوقائع والحقائق الهامة والمثيرة التي عاشها وعاصرها Karow.
لقد كان Karow شاهدا محظوظا، رغم ضيق أفق تحركاته، بسبب مجال اشتغاله على السواحل المغربية الجنوب غربية والشمال شرقية، ورغم محدودية مهمته البحرية. وتبقى مساهماته ذات أهمية كبيرة، حيث أبان، كمراقب، عن سرعة وتقدم في الأداء على مستوى الواجهتين البحريتين حساستين لمملكة شاسعة.
إن مهمته مزدوجة، يمثل مصالح ألمانيا والمغرب. لا يجب إساءة فهم قراءة عنوان الكتاب، فالسنوات التسع التي قضاها لخدمة السلطان كانت أيضا لخدمة مصالح ألمانيا. ويعتبر Karow واحدا من مجموعة ملاحين ألمان أوكل إليهم المغرب نهاية ق19م، إعادة تشكيل أسطول حربي عصري للنقل والحراسة. وهو أمر راجع لفطنة وحكمة السلطان مولاي الحسن الذي أدرك الأهمية الاقتصادية لمغرب بات يعاني سنة بعد أخرى. إنها تجربة تم إثباتها خلال الدفاع عن السواحل الجنوبية المهددة من قبل الشركات الأجنبية والركود التجاري، كذلك ما عرفته أزمة تموين مخيمات منطقة سوس، الأمر الذي تطلب، في سنتي 1882 و1886، استأجار سفن أجنبية. كما استلزم الأمر مراقبة السواحل حيث تزدهر تجارة التهريب التي عملت على تموين الحاميان العسكرية. هذا الجهد لم يتسبب في أي مشاكل، عملية أو تقنية أو مالية.
لقد كان اقتناء “الحساني” أول عمل يقوم به مولاي الحسن، عمل يؤكد عناد وتشبثه برأيه. وفي أكتوبر من العام 1892 تم اقتناء السفينة الثانية ضمن الأسطول البحري المغربي، وهي “التريكي الصغير”، التي كانت تستعمل للسحب والنقل للمسافات القصيرة. هذا وفي شتنبر العام 1894، سوف يتعزز الأسطول المغربي باقتناء السفينة البخارية “تريكي”(سيدي تريكي)، التي تم استخدمتها Krupp لنقل المدافع والتجهيزات الثقيلة من ثكنة الرباط، إذ تم إقحامها في مهمة نقل المعدات هذه. ثم سفينة “البشير” التي تم جلبها تحت الطلب، من إيطاليا، واقتناؤها في نونبر العام 1899، فكانت الأضخم والأكثر أهمية بفضل حداثة تصنيعها، وهي السفينة المتخصصة الوحيدة ضمن الأسطول المغربي، باعتبارها من أفضل أنواع السفن الحربية، إذ تستطيع تحميل 1150 برميلا، وهي ترتقي لمصاف السفن الحربية الكبيرة في تلك الفترة. كما يجب التنبيه إلى كون هذه السفينة مكلفة بالنسبة لبلد يعاني من ظروف مالية صعبة، بدليل أنه حتى قبل اقتنائها قام المغرب بمحاولة عرضها للبيع.
تشكل الأسطول البحري المغربي من أربع سفن ضخمة للإنجاز عدد من المهام المختلفة. لكن سرعان ما بادر المخزن للتخلص منها. فباع “الحساني” سنة 1900 لدار Prosper Durand في الجزائر، بقيمة 20 000 دورو، ثم “البشير” في فبراير 1902 للحكومة الكولومبية التي حازت الجناح، فلم يتبقى سوى “التريكي الصغير” الخاص بمنطقة العرائش، وبشكل خاص سفينة “تريكي” الضخمة، ذات حمولة 460 برميلا، والتي يبلغ طولها 48 مترا، وعرضها 8 أمتار، حيث كانت سفينة تجارية تم تحويلها إلى سفينة حربية مجهزة بمدفعين Krupp مزودين بنظام للرفع دون تثبيتهما على عربة دوارة، إذا يكتفيان بتوجيه الطلقات في اتجاه واحد انطلاقا من محور تثبيتهما.
تحمل سفينة “تركي” على متنها طاقما من 20 ملاحا مغربيا، و7 ضباط مكلفين بالمدافع، و6 ألمان يتولون قيادة السفينة وأمورها التقنية. لقد أضحى الأمر ضمن عادات المغرب أن يولي شؤون قيادة سفنه للألمان، إذ عمد للتخلص من الإسبان الذي كانوا قد تولوا هذه المهام سابقا على ظهر سفينة “الحساني”، وقام بإنزال طاقم إيطالي قام بعملية تسليم سفينة “البشير”. لم تتراجع سفينة “تريكي” بقيادة Mietzner عن دورها، وهو ما سوف يورده Karow، الذي سيتولى قيادتها لاحقا.
إن السيرة الذاتية ل Leonard Karow، كما حاولنا تشكيلها، تتضمن بلا شك عددا كبيرا من الثغرات، إلا أنها تبقى غير ذات أهمية كبرى لمعرفة الشخصيات.
ولد Leonard Karow سنة 1872. التحق بالبحرية التجارية، فتولى مهام نائب قبطان سفينة لدى شركة وورمان. وعند نزوله بهامبورغ سنة 1899 التقى بالقبطان Mietzner الذي كان في مهمة لفائدة الحكومة المغربية للبحث عن قبطان لسفينة “تركي” التي سيتخلى عنها ليتفرغ لقيادة سفينة “البشير”. هكذا وأمام العرض المغري المقدم من طرف الحكومة المغربية، التحق Karow بمدينة طنجة فقبل بالعرض بعد إخطار الفيلق العسكري الألماني. هكذا تولى قيادة “تركي” إلى جاب كل من محمد الطريس ممثل السلطان لدى الهيئة الدبلوماسية، في دجنبر 1899، لتمتد مهمته طيلة 9 سنوات إلى غاية 1908، فجاب السواحل المغربية بداية من الجنوب ثم الشمال الشرقي خلال فترة التصدي للثائر بوحمارة.
Karow الشاب المتحمس، بمزاج الهادئ في بذلته الرياضية، وأفكار قصيرة، إذ يمكنه الكثير المتاعب والصعوبات، فلا تظهر عليه حالات التذمر، والتعامل مع طاقم غير متجانس، غير معتاد على الأشياء المتعلقة بالحرب، خاصة وسط البحر، ومنهم العناصر المتهاونة المتخرجة من الأكاديمية الإيطالية.
لما قرر المولى عبد العزيز، بداية 1908 الاستغناء عن الأسطول المغربي وبيع ما تبقى من السفن، أي “تركي” و”سعيدي”، اللذان تم اقتناؤهما سنة 1906 لفائدة البحرية الشريفية، استقر Karow في طنجة حيث كانت زوجته تشتغل كمعلمة بالمدرسة الألمانية.
وفي سنة 1910 سوف يتم تعيينه مديرا للمكتبة الألمانية المغربية التي تم افتتاحها بطنجة من طرف معهد لغات الشرق ببرلين. فأضحى، إلى غاية 1914، أحد أعيان المستعمرة الألمانية بالمدينة، باعتباره أحد أهم العارفين بشؤون وخبايا المغرب، ويتوفر على مدخلات للمفوضية الألمانية.
قام بإرسال عدد كبير من المقالات للصحف الألمانية، منها: Die Marokniche Flotte، In Hamburger Korrespondant، 4/7/1905، Der socco in Chico in Tanger، In le Vossische Zeitung، 10/02/1909. في هذه الجريدة نشر بعضا من نشاطاته بالمغرب.
عند نهاية الحرب تم اعتمادهم جاسوسا ضمن مجموعة الجواسيس الألمان الذين تتم إدارتهم من مدريد من ذرف السفير Le Prince de Ratibor، والملحق العسكري Kalle. يبدو إذن، أنه قام بنفس الدور الذين نهجه سلفه، بالعمل على تزويد المخابرات الألمانية بعدد من المعطيات بشكل منتظم، مستغلا علاقاته وتواصله وتواجده بين خدام السلطان.
لقد شكلت معرفته بالمغرب والعديد من شخصياته وكذا شخصيات إسبانية، لإضافة إلى خبرته في مجال الملاحة البحرية، قوة اعتمدها في عمله وإنجاز مهامه التجسسية. فاتخذ من مدينة العرائش قاعدة أساسية لنشاطه وعملياته في الفترة ما بين 1915-1916، فكشكل الميناء محطة لاستقاء الأخبار ومراقبة التموين ونشاك البحارة الألمان. لهذا اتخذ الألمان من مدينة العرائش مركزا مهما لنشاطهم في الشمال الغربي، مثل مليلة بالشمال الشرقي. وشكلت اللائحة السوداء للشركات الألمانية المنشورة في 16 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية، إحصاء لثلثي أسماء جهة الشمال(57/88)، وبهذا اعتبرت المصالح الفرنسية، Karow، “العميل الرئيسي للمعلومات”، والذي يتوجب مراقبته بحرص شديد.
استمر هذا الوضع، وكأنه لعبة “غميضة”، على مدى أربع سنوات مثل أحداث رواية جاسوسية لا تصدق، أشرف عليه القنصل الألماني، Zechlin، ثم Rohner، ولفترة تحت غطاء نائب مدير البريد الألماني، فظل على اتصال دائم بالمحميين الألمان، والبحارة المغاربة، والأوربيين العابرين، والإسبان المستقرين بالعرائش الموالين للألمان وملتزمين بقضايا ألمانيا. كان شعبيا وكريما، وقد عرف باسم “الرايس”، أي القائد البحري.
استقر بالمدينة إلى نهاية 1918، ليختفي من أي مشهد يذكر، وحتى من أي أرشيف، عند نهاية الحرب. فكم من ألماني اضطلع بنفس الدور بشمال المغرب، وكان يعرفهم في عهد عبد الكريم؟ هل استمرت في أداء دوره إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الثانية؟.
خلال إقامته الأولى بالمغرب ترك كتابا يسجل مذكراته، وظروف اشتغاله والدور الذي اضطلع به داخل البحرية الشريفية. ألفه خلال فصل الربيع والصيف من العام 1908، ليتم نشره في 1909 ببرلين (عند W.Weicher)، عن تسع سنوات في خدمة المغرب، أي نشر الكتاب خلال الأزمة الفرنسية المغربية الثانية.
كان بالإمكان إصدار الكتاب تحت عنوان آخر، “مغرب عبد العزيز”. لأن الوقائع بدأت في الوقت الذي شرع فيه السلطان في الأخذ بزمام الأمور، بعد وفات با احماد. كان حدثا بارزا انتهى بانتصار مولاي عبد الحفيظ وطرد عبد العزيز والقبض على بوحمارة في غشت 1909، الذي شكل شخصية رئيسية في كتاب Karow.
كانت نهاية سفينة “تركي” بيعت من طرف سلطان يائس رغم ما كان يتمتع به من سلطة رمزية كبيرة. إنها نهاية الإصلاحات التي حاول السلطان عبد العزيز تنزيلها بذكاء وعناد ينمان عن غباء وسوء تقدير. فصار المغرب في تلك الحقبة، بداية هذا القرن، محط ضغوطات خارجية كبيرة.
يبين Karow، في كتابه، من خلال سرد وقائع متشابكة، عدم وضح الجهود الجديرة بالاهتمام وما أحدثته من أضرار وخراب في دار المخزن، لصد المقاومة والتمرد وسط الدخلاء الأجانب أمام الزحف الفرنسي في الجنوب الشرقي نحو الشرق، والقوة الألمانية، والخيبة الديبلوماسية المغربي بمؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، ثم التدخل العسكري أخيرا سنة 1907.
انطلاقا من هذه القصة المعقدة والمشوشة في كثير من الأحيان، لا يتوخى Karow تقديم دراسة أو حتى ذكريات انطلاقا ذكريات عاشها أ واوامر تلقاها، تبعا لما سمحت به الظروف الزمانية مثل ما تفعل المسافات حين تمحي تفاصيل المناظر الطبيعية من أجل وضع ترتيب عام.
ينقسم الكتاب إلى 26 فصلا قصيرا وفق تسلسل زمني منطقي. عمل أقرب إلى يوميات أو مذكرات، له إيجابيات وسلبيات. جلي أن Karow ارتكز في كتابه على مذكرات حقيقية، الشي الذي تؤكده التواريخ المضبوطة، ودقة متناهية لا يشوبها أي عيب. وبالتالي فالكتاب يستمد مصداقيته من المعطيات الواردة فيه، والتي تعطي الانطباع الكبير بأنها معاشة فعلا، يدعمها ب60 صورا فوتوغرافية أصلية.
يتميز Karow بعدم انغماسه في خضم الشأن السياسي، أو حتى كونه شاهدا أجنبيا. بل اندمج في دواليبها المتوسطة والدنيا حيث تتجلى حقيقة الآلة الإدارية والعسكرية. فشغل منصبا بسيطا متواضعا بعيدا عن دائرة الاهتمام السلطة ونظرياتها. انخرط بشكل واسع فيها ليتمكن من امتلاك السلطة الحقيقية، وكذا التدابير المتخذة بفاس.
يتميز كتاب Karow كونه مدرك لمحدودية مجال اشتغاله، بشكل متأصل ورغبة منه فيه. غياب الأفكار العامة، نقص في التصور والخيال، وأسلوب غير مقنع، إذ لا شيء يمكنه أن يعوض أولوية الشهادات المقدمة. تبدو الملاحظات السوسيولوجية والسياسية غير واضحة ومتخفية، مثله مثل رجل المسرح الغنائي، أو الشعور بالأسى في كتاب “إمبراطورية تتداعى” ل”Campou”، وسخرية Harris، وقصص الحريات بMontbard … قوته في اختصاره، حيث تتجلى قوة الكتابة في دقة نسج المعطيات والحبكة التاريخية وفق تطور الأحداث وتواليها التي تستعيد قيمتها الجوهرية والرمزية.
(يتبع)