ذ. محمد أمين بنعبد الله *
ترجمة ذة. سليمة فراجي – محامية بهيئة وجدة
لا أحد يجادل في كون جريمة إزهاق الروح وقتل الأشخاص بسبب إبدائهم للرأي وحرية التعبير، يعتبر في قمة البشاعة والاستنكار والرفض والإدانة، ولا يوجد إنسان عاقل لا يناهض بقوة من يتجرأ على الحق الأول للإنسان، ألا وهو الحق في الحياة، أو يحبذ هذه الممارسات المقززة، المهينة للإنسانية جمعاء، بل أي عنف كيفما كان نوعه يعتبر منبوذا ومرفوضا ومحل تنديد واستنكار.
إن ما حدث وما يحدث حاليا، ومع الأسف، لا يرقى إلى رفعة وسمو الكائن البشري، ولا يمكن أن يولد سوى الاشمئزاز وكسر الخواطر.
ومع ذلك من كان يتوقع أنه في بلد ديكارت وفلاسفة الأنوار، ستغدو حرية التعبير محط تفسيرات خاطئة وفضفاضة لدرجة ترضي طورا شريحة من المناصرين، وتكسر طورا آخر خاطر شريحة متمسكة بقناعاتها الدينية الراسخة، ليصبح التعايش والعيش المشترك في خطر!
من الثابت أن الرسوم الكاريكاتورية تشكل آلية للتعبير وإبداء الرأي، بل تتعدى ذلك أحيانا إلى وجود نوايا خفية تنتصر للإيذاء والقدح وكسر الخواطر، الشيء الذي يجعل القانون جديرا بالتدخل للحد من التجاوزات المسيئة التي قد تخلق مواجهات، الجميع في غنى عنها.
بل وما يعتبر فوق القوانين والضوابط ط، هناك الجانب الأخلاقي الإنساني، والانتصار للاحترام المتبادل الذي نصت عليه النواميس والشرائع، إذ بالإمكان التوفر والتسلح بالمقتضيات الدستورية والقانونية، ولكن لا نلجأ إليها إن كانت تؤدي إلى الاختلالات والتشنجات في العلاقة بين المعنيين بها، الذين يكتفي بعضهم بمجرد ابتسامة باهتة، ويكون رد فعل البعض الآخر كارثيا وغير متوقع، وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وفي سياق النقاش المستفيض حول حرية التعبير، فإن دور رجل القانون لا يستهان به، هناك نوازل تثمن تدخل المشرع لوضع حد لحالات مأساوية أو التلطيف من حدتها. ومن نافلة القول ان التعايش والاحترام المتبادل لا يهم مواطنين داخل أقاليمهم وأوطانهم، بل يتعدى ذلك إلى مواطني وساكنة الكرة الأرضية أينما وجدوا، خصوصا بعد انتشار منصات وأدوات التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت حاليا في متناول الجميع، تجعل المعلومات والأقوال تنتشر بواسطتها وتصل إلى المتلقين، سواء كانت صريحة او ضمنية، بريئة أو حاملة لمقاصد متعمدة.
وللإشارة، ومنذ ثلاثين سنة، تدخل المشرع الفرنسي وصادق على قانون “كايسو” للتصدي للعنصرية ومعاداة السامية وبغض الاجانب، هذا النص القانوني البالغ الأهمية الذي تسبب في اختلاف وجهات نظر المجتمع السياسي بين مالكي الحقيقة الرسمية والمناصرين لحرية النقاش والتشكيك.
وللإشارة أيضا، فإن مسألة نفي الحقيقة الرسمية في موضوع الاعتداء على اليهود من طرف النازيين التي تصدى لها هذا النص القانوني أثارت بعض الحساسيات، لكونها حدت من حرية التعبير المعتبرة مطلقة، لكن منحى النص القانوني غير ذلك، ولو كان كذلك، لتمكن أي كان من التعبير وإطلاق العنان للتفوه بكلمات قدحية جارحة ومهينة دون أدنى اعتبار للطرف الآخر، وتحول الأمر إلى حرية السب والكراهية وتقزيم وتبخيس الأحداث والوقائع التاريخية المؤلمة. فهل كان تدخل المشرع إذن للحد من حرية التعبير المطلقة غير مشروع وغير صائب؟ إطلاقا، لأن هذا القانون لما عرض على المجلس الدستوري الفرنسي، حسمت هذه المؤسسة الأمر بمقتضى القرار المؤرخ في 8 يناير 2016، والذي قضى بمطابقة القانون للدستور، إذ اعتبر “أن التصريحات التي نازعت في وقائع معتبرة جرائم ضد الإنسانية جرمها القانون الفرنسي والقانون الدولي، وتشكل في حد ذاتها تحريض على العنصرية ومعاداة السامية”.
كيف يعقل إذا وبقوة المنطق أن نحد من حرية التعبير لما تتعلق بموضوع معين أو طرف نريد حمايته، وفي نفس الوقت نعتبر أنه لا حدود لها لما تمس بشعور ووجدان والقناعات الدينية للآخرين؟
أليس هي حالة التلبس في أجمل متجلياتها للكيل بمكيالين؟ الإدانة من جانب والتغاضي من جانب آخر!
ولا ريب أن الاصطدام بالعقائد عن طريق التسميم وزرع شعور قد يؤدي إلى رد فعل غير قابل للسيطرة، أليس هذا توجه نحو اللامعقول؟
إن الدين الإسلامي، والذي أشاد بنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “فيكتور هوجو” سنة 1858، وكتب عنه لامارتين في مقال: “عظمة العظيم نبي الإسلام” ( تاريخ تركيا، الجزء الأول المكتبة الدستورية باريس 1854-1855ص 276 إلى 280)، والذي مفاده أنه لا يجوز وصف نبينا أو تمثيله أو الرمز إليه ولو بالصور، فبالأحرى تمثيله بصور مهينة ومخلة بالحياء بواسطة رسوم كاريكاتورية مهينة وغير مقبولة من طرف محبي الرسول والمسلمين.
الكل يعلم أن الكاريكاتور لم توجد ولا توجد بصفة مجانية، ولا يكون الهدف منها سوى تغيير وضع قائم، أو الاحتجاج على أفعال أو طرق تسيير للوصول إلى ما ينبغي أن يكون، فما الهدف منها تجاه المعتقدات والقناعات الدينية المعتبرة من الثوابت؟ هل تصبو إلى تغيير الدين يا ترى؟ بالطبع، لا؛ الشيء الذي نستنتج منه أنها مجرد استفزازات تجاه ثقافة معينة ودعوة إلى الكراهية، والتي قد يردد بشأنها “بوسيي: “إن الله يتعجب ممن يستنكرون ويتباكون على النتائج التي كانت أسبابها محببة إلى قلوبهم”.
وعلى صعيد القانون الأوروربي، وفي قرار صادر بتاريخ 25 أكتوبر 2018، فإن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان خلصت إلى إن إدانة مواطن نمساوي من أجل الإساءة إلى نبي الإسلام، وما تشكله من تهديد للسلم الديني، “كانت في محلها، ولا يعتبر الحكم خرقا لحرية التعبير المنصوص عليها في المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان”.
خلاصة القول: فإن قانون “كايسو”، وهو الذي جزء لا يتجزأ من قيم الجمهورية، وإن كان يتعلق بوقائع معينة، فإنه لا يمنع من أن تضاف إليه مقتضيات تتصدى للشتيمة وإهانة، ليس فقط الديانة الإسلامية، وإنما جميع الديانات، بفرض الاحترام للقناعات والمعتقدات الدينية، والحماية من أية هجومات أو تهديدات مجانية، وبالترفع ورفعة مبدأ التعايش السلمي الآمن، لاستتباب الأمن داخل المجتمعات.
ولا ريب سوف تكون الجمهورية أعظم وأرفع في أعين المنبهرين المقتنعين بمبدأ احترام المؤسسات وتقديرالتطلعات إلى صيانة الحقوق والحريات.
* محمد أمين بنعبد الله
أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس
عضو سابق بالمجلس الدستوري