د. توفيق عزماني: جامعة محمد الأول
في زمن الحجر الصحي قد تغيب عن الفرد المنعزل بالقوة عن المجتمع الذي احتضنه منذ نعومة أظافره، إمكانية الإشعاع الاجتماعي والتواصل الفعلي مع الآخر. لكن هذا لا يمنع الأفراد من إبداع طرق بديلة للاندماج المجتمعي، والمساهمة في البناء الحضاري الإنساني، فالهندسة الفريدة للعقل البشري لا تقف بالضرورة عند الحدود التي يرسمها كائن لا يرى حتى بالعين المجردة.
وبالرجوع إلى التعريف اللغوي الذي يتضمنه لسان العرب لكلمة “جائحة” نجد أنها تعبر عن المصيبة التي تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله، وفي اصطلاح الفقهاء فالجائحة هي ما يذهب الثمر أو بعضه من آفة سماوية.
وحتى لا تكون السنة العشرون من الألفية الميلادية الثالثة سنة جائحة أي جدبة، فالمجتمعات تقوم بسن قوانين وإجراءات احترازية للتخفيف من الآثار السلبية على مختلف المستويات والأصعدة. هي إجراءات قد تبدو للوهلة الأولى مجرد كماليات غير ذات أهمية، لكنها سرعان ما تتحول إلى ضروريات لا محيد عنها للتأقلم مع الواقع الجديد التي تفرضه هذه الكائنات المجهرية المنتمية لفصيلة التاجيات.
● إشكالية الارتجال في بناء مقاربات المواجهة
لعل من أسباب الفشل الأساسية في مواجهة هكذا مستجدات هو غياب رؤية واضحة المعالم معدة سلفا لإدارة الأزمات.
فحين يكون الارتجال سيد الموقف مع عدم وجود تصور واضح لما يستدعيه المقام من حذر واستعداد، فالنتيجة تكون بالضرورة غير محسوبة العواقب وموسومة بالتخبط الجلي مما يؤدي الى كوارث حقيقية في بعض الأحيان. وللأسف هذا ما لاحظه العالم باندهاش كبير عند بعض الدول التي كنا نعتبرها متقدمة جدا في التخطيط والاستشراف.
فردود الأفعال حيال هذه الجائحة على سبيل المثال كانت جد متباينة، بدءًا بالتجاهل والتبخيس ثم الاندهاش والخوف ووصولا الى التهويل ومحاولة التحوير. والجدير بالذكر أن سرعة انتقال المعلومة وعولمة الحدث والمتابعة اللحظية لمختلف التطورات عبر العالم زاد الطين بلة، حيث تناسلت الأخبار والاحصائيات والنشرات بشكل تطور معه الإحساس بالخوف الهستيري عند الأفراد والرغبة في اقتناء أكبر كمية ممكنة من الأغذية ووسائل العيش وهو ما أضحت معه الأمور أكثر تعقيدا.
وارتباطا بهذا الموضوع، حق لنا مساءلة أجهزتنا الوطنية و خصوصا منظومتنا التربوية على المستوى الجامعي في مقاربتها لتجاوز تداعيات أزمة اشتعل فتيلها بعيدا في جنوب شرق اسيا لتصبح خلال أسابيع معدودة الشغل الشاغل لجل بلدان المعمورة.
● الأُهبة الرقمية ومسألة الانخراط الطوعي للفاعلين التربويين
يقر الجميع اليوم أن هذه المستجدات لم يتم توقعها حتى في أسوء السيناريوهات الاستشرافية للمستقبل عبر العالم، لكن في المقابل فالخطر المحتمل حصوله يكون دائما حاضرا في خلد المسؤولين بالقدر الذي يجعلهم يضعون مخططات وبرامج يمكن تنزيلها حال وقوعه.
ولعل الرقمنة التي انخرط فيها الجميع، منذ العشرية الأخيرة على الأقل، هي احدى الحلول التي لا تخلو من الصعاب والتي يمكنها المساعدة على تجاوز بعض المشاكل الناجمة عن مثل هذه الجوائح. وتجدر الإشارة هنا أن ما يشكل الفارق الرئيس بين المؤسسات الجامعية في ظل الحجر القائم هو قدرتها على التأقلم مع الوضع الجديد من خلال اعتماد وسائل بديلة عن الأشكال التقليدية للتدريس الحضوري. كما أن درجة أهبة واستعداد الأنسجة الحية لهذه المؤسسات شرط أساسي للمرور بسلاسة الى الاشتغال عن بعد مع كل ما يستدعيه ذلك من بنى تحتية وتكوين وأخصائيين لضمان مواكبة ملائمة للعملية برمتها.
طبيعي اذن أن نتساءل في هذا الوقت الدقيق عن مدى جاهزية مؤسساتنا العمومية والجامعية بالخصوص لتقديم الحلول المناسبة لواقع الحال، وكذا عن مدى استعداد الفاعلين التربويين للانخراط الفعلي والفعال في هذه التجربة المتفردة.
ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المقام بالقرار الحكيم الذي اتخذته السلطات المغربية منذ سنوات لخوض غمار الرقمنة وتدارك الهوة التي تتعمق في المجال الرقمي يوما بعد يوم. وفي هذا الصدد بادرت جامعة محمد الأول بوجدة، مقارنة بمثيلاتها على المستوى الوطني، بإنشاء مركز جامعي متخصص في التجديد البيداغوجي والتعلم الرقمي، حيث راكم خلال سنوات اشتغاله خبرات لا بأس بها في التكوين عن بعد وتأطير الطلبة الباحثين في هذا المجال ومواكبة الأساتذة المجددين في رقمنة مضامين الدروس التي يؤطرونها. كما سهر المركز على برمجة لقاءات علمية سنوية راتبة تجمع مختلف الفاعلين المنتمين الى الجامعة وكذا الوافدين الأجانب المشهود لهم بالباع الطويل في هذا الشأن لتقاسم الخبرات وتنقيحها.
وقد أسفرت هذه المجهودات الحثيثة عن تكوين الرعيل الأول من المتخصصين في الهندسة التكوينية والتكنولوجيات التربوية. نخبة أصبحت قادرة على مواكبة و تأطير عملية الانتقال الرقمي المنشود. و بالفعل فقد تمكن هذا المركز، قبل زمن الجائحة من رقمنة مضامين ما يناهز العشرة بالمائة من العرض التربوي الإجمالي لجامعة محمد الأول أي ما يقارب المائتي درس من تخصصات مختلفة، معتمدا في ذلك على الانخراط الطوعي للأساتذة و الطلبة في هذه العملية.
وتجدر الإشارة هنا، أن النسبة المحققة خلال هذه الفترة على قلتها الظاهرة، فهي في العمق لا تختلف عن النسب التي تحققها بعض الدول الأوربية الشريكة التي لها من الإمكانيات اللوجستية ما يفوق بكثير الإمكانيات المتاحة للجامعة المغربية. لكن في المقابل تبين عدم كفاية هذه المجهودات مباشرة بعد الإعلان عن الحجر جراء الإعلان عن ظهور أولى حالات الوباء داخل الوطن حيث وجدت الجامعة نفسها مطالبة بتقديم عرضها التربوي كاملا عن بعد.
(يتبع)
د. توفيق عزماني
جامعة محمد الاو