بقلم: عبد المنعم سبعي
شكل الوضع الصحي الذي تعيشه الجهة الشرقية ومدينة وجدة على وجه الخصوص، جراء تفشي وباء كورونا بشكل ملفت، مناسبة لتقييم أداء نخب الجهة للدفاع عن مصالح سكانها والضغط على وزارة الصحة والداخلية من أجل اتخاذ القرارات المناسبة. ولم نسمع أي صوت من أصوات المنتخبين وأبناء الجهة المتواجدين بمراكز القرار تحاول إيصال معاناة ساكنة هذه الجهة مع هذا الانتشار الفادح للوباء. ولعل هذا الصمت الرهيب يقيم الدليل على ترهل المشهد السياسي وموت النضال الحزبي بشكل لا أمل في انبعاثه من خلال هذا الواقع. نخبنا السياسية تحتاج إلى رجة حقيقية وتشكل آخر وفق شروط أخرى. ثم إن البحث في الأصول الجغرافية لهؤلاء الوزراء يجرنا إلى الاعتقاد بأن نخب هذه الجهة كانت متميزة في السابق، ولم تعد الجهة اليوم قادرة على إنجاب وزراء ومستشارين كما كان في السابق. فما الذي تغير؟
إن الحديث عن النخب السياسية يحيلنا أولا إلى مدلولها اللغوي، فهي تلامس كل ما هو مختار و منتقى، و تتفرد بصفة الأجود و الأحسن، تفضيلا لها عمن سواها من طبقات المجتمع، و لئن كانت السجالات الفكرية التي قاربت مصطلح ” النخبة ” من الزاوية السياسية قد حصرتها في أحد طرفي الثنائية (نخبة-جمهور) أو (خاصة-عامة)،فان نظرية النخبة تنبني على خلفيات إيديولوجية، تهدف إلى نقض نظرية الصراع الطبقي التي تعد اللبنة الأساس للفكر الماركسي، و تحاول إبراز المجتمعات الرأسمالية بمظهر ينفي عنها ميزة الوراثية في طبقاتها العلوية، و في ذالك إشارة إلى أن الذكاء محدد أساسي لوصول الأشخاص إلى نوادي النخبة، و إن كانوا يحتلون مراتب متدنية في هرم السلم الاجتماعي في بداية حياتهم. فأمر النخبة إذن عبارة عن الأشخاص الذين يظهرون صفات استثنائية و يتميزون بكفاءات عالية أهلتهم لاحتلال مواقع إستراتيجية من المجتمع، ومكنتهم من التحكم في السلطة و المساهمة في صياغة القرار السياسي.
و تكاد تجمع مختلف الدراسات السوسيولوجية التي قاربت موضوع النخبة المغربية على أنها عبارة عن أقلية تؤثر في سلطة القرار و تتدخل في توزيع منافع الدولة، و تضم كلا من الأحزاب و النقابات و الأسر الكبرى و القبائل و العلماء و الشرفاء، و أعضاء الديوان الملكي و الوزراء، والسفراء و أعضاء البعثات الدبلوماسية و العمال و الباشاوات و اللجان التنفيذية للأحزاب وقادة النقابات و ممثلي الغرف و البرلمانيين … حسب ما ذهب إليه “واتر بوري” و غيره، وتضيف دراسات أخرى أن النخبة المغربية هي عبارة عن شبكات من العلاقات و المصالح تشتغل على السلطة المادية و الرمزية لدوائر إنتاج القرار السياسي، مكتسحة لمختلف تضاريس المجتمع و أنساقه، لكن التساؤل الكبير الذي يصاحب كل دراسة للنخب المغربية يتمحور حول من مهد الطريق لهؤلاء نحو قشدة المجتمع من أجل الوصول إلى مراكز حساسة في المجتمع ؟ و ما هي العناصر التي تداخلت و تفاعلت ليحتلوا مواقعهم بفضاءات صنع القرار؟ وما هي شروط بقائهم ضمن دائرة النخبة؟
لسنا في حاجة للتدليل على أن الطريق نحو هذه المواقع لا تكون سالكة و بنفس الليونة لكافة المواطنين و خاصة ” للذين هم تحت ” كما و صفهم عبد الرحيم العطري في كتابه “صناعة النخبة بالمغرب “، و لا نجهل الرساميل الضرورية و اللازم توافرها لضمان مكان مريح ضمن حقل النخبة. لكن متيقنون أن جزء من نخب الجهة الشرقية شكلت الاستثناء العارض في إطار “التشريح السوسيولوجي لمسارات صناعة النخبة بالمغرب” فلا هم من الأصل النبيل، و لا هم من أصحاب الرساميل الرمزية.. بل أكثر من ذالك حتى الذين وصلوا منهم إلى مستويات عليا من مراكز صناعة القرارات السياسة، ظلوا أوفياء لقيمهم ومبادئهم، ولم تتلطخ مسيراتهم بخيانات ولم تتوج مراحلهم الذهبية بغنى فادح تشتم منه رائحة الانقضاض على المال العام أو الانخراط في اقتصاد الريع بكل تمظهراته، فلراهنية هذا التميز جذور متأصلة في ماضي نخب الجهة الشرقية، ولهذا الماضي استمرارية واضحة في الحاضر، وبذلك يمكن أن نجزم أن كل امة تعرف مزيجا من الثقافات السياسية، يكون إما متمايزا أو متوازنة توجهاته، أيا كانت طبيعته فهو نتاج تراكمات تاريخية و معتقدات سياسية مترسبة عبر مراحل مختلفة. وبالمقابل أي دور للتكوين السياسي والحزبي للمنطقة بتاريخها وجغرافيتها و ثقافتها في ظهور صنف من المعارضين و الراديكاليين من جهة؟ و إلصاق بعض مظاهر التميز لدى ثلة من النخب التي انخرطت في قواعد المخزن، من حيث ممارسة السلطة و الاستوزار و القبول بتواعد النسق السياسي الكائن من جهة أخرى.
إن الحديث عن الثقافة السياسية لدى نخب الجهة الشرقية يمكن مقاربته من خلال التقاطع بين عنصري ثنائية ( العام و الخاص). ذالك أن العام المرتبط بالثقافة السياسية يحيل على ذلك الكل المنجز المميز للهوية السياسية المغربية، وتضم إلى جانب الجذور الفلسفية و المرجعيات، الخطاب و السلوك وإستراتيجية العمل ، أما الخاص فيشير إلى بعض الخصوصيات والمميزات لدى نخب جهة معينة أو صنف معين أو حاملي مشروع فكري أو سياسي مغاير. غير أن التركيز على التميز لدى نخب الجهة الشرقية لا يعني تلك السمة المميزة لحركة تحمل مشروعا سياسيا معينا، و تناضل من أجل بلوغه و فق مسارات تصاعدية خطية و متعرضة للقطائع و الانكسارات، و إنما القصد من وراء هذا التركيز هو استجلاء المظاهر والأسباب التاريخية والثقافية للجهة ونخبها، سواء التي برز إشعاعها في إطار الحقل الرسمي أو تلك التي تفتقت قريحتها من خلال النسق المعارضاتي، أو الحامل لرهانات الصراع مع السلطة.
السؤال الأكثر إلحاحا في هذا المقام هو هل توجد مظاهر سياسية توحد بين نخب الجهة الشرقية و تميزها عن باقي النخب المغربية الأخرى؟ هل يمكن تلمس نوع من الأشكال المميزة في الفعل السياسي، لا يمكن أن نجدها إلا عند نخب الجهة الشرقية، و يستحيل الوقوف عليها لدى باقي نخب المغرب؟
إن المقصود بنخب الجهة الشرقية لا ينحصر في الرقع الجغرافية المعروفة حدودها و طبيعتها و مناخها، و لكن المقصود بهذه النخب تحديدا هو ذلك الفعل السياسي و النفسي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي تعرضت له الثقافة السياسية لنخب الجهة الشرقية على امتداد التاريخ، فهذه الثقافة بهذا المعنى لها ما يبرر إفرادها بالدراسة و البحث و تخصيصها بالتميز.