بقلم: عبد المنعم سبعي
تسير بنا الأيام دون استئذان وتتوالى الأيام والشهور تنقطع من أعمارنا قسرا لا طواعية، نترقب حلول مناسبات مفرحة وأيام ذات دلالة عميقة في مجتمعنا وموروثنا الفكري والثقافي، لعلها تنسينا فيما ينقطع من أعوام من حياتنا المحدودة، ويبقى حلول ذكرى مولد نبي الرحمة إحدى هذه المناسبات التي تذكرنا بأصالة قيمنا الإنسانية وأخلاق نبينا العالية. وإن عدم الاتعاظ واستحضار مثل هذه الدروس من ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تأكيد على أن الإنسان لا يزال يعيش مرحلته الحيوانية، وأنه لا يزال لم يسم بعد إلى ما أراده الله لعباده من بعثة الأنبياء من الهداية والدعوة إلى الخصال العالية، وأن الدين بريء من هذه الوحشية في الاقتتال والتطاحن والمجاهرة بالرذائل باسم الحرية تارة وباسم الهويات المصطنعة والانتماءات المزيفة تارة أخرى. هذه رسالة وعبرة لكل من يريد أن يعتبر، لكن العبرة لن تجد طريقها مع الأسف للآذان غير الصاغية ولا العقول الجافة ولا القلوب القاسية.
متأكدون أن كثيرا من أبناء جلدتنا يستعدون للاحتفال بذكرى المولد النبوي،وذكرى هذه السنة تأتي في سياق صحي ووبائي غير مسبوق، فمن الناس من فقد شغله ومنهم فقد أحبته، ومنهم يتحسر لعدم استطاعته هذه السنة إعداد الوجبات الخاصة بهذه المناسبة أو اشتراء الألعاب النارية لأطفاله من مفرقعات ومسدسات، وكثير منهم سيجد نفسه مجبرا للبقاء بعيدا عن أهله وذويه وبعيدا على مائدة “تاقنتة وبركوكش “… إنها تداعيات وباء كورونا الذي اجتاح العالم وترك جراحا اقتصادية واجتماعية لا يمكن أن تندمل بالسرعة المتوقعة، ولكن مع ذلك ونحن نحيي هذه الذكرى العطرة ينبغي أن نستحضر رحمة نبينا وسماحته، وبساطته في العيش مقابل الحرص على بناء الأمة بناء يعطي للأمة الإسلامية الضوء الأخضر لاقتحام بناء الحضارة على أسس من الحب والقيم الإنسانية الرفيعة.
لا أدرى ونحن نعيش ذكرى مولد نبي الرحمة كيف تسللت أشباح القسوة والغلظة في حياتنا وكيف تقتحم حياة الناس بهذه الضراوة، وتشوه أجمل ما في البشر وأكثر ما عمل نبينا على نشره بين الناس وهى الرحمة..اقرأ كثيرا عن جرائم القتل في مدننا وقرانا، وفى زمان مضى كنا لا نسمع عن هذه الجرائم كثيرا.. ولكن صحفنا الآن لا تخلو من أكثر من جريمة كل يوم.. والغريب في هذه الجرائم هو نوع القسوة.. من يقتل طفلا في زهرة العمر.. ومن يقتل أباه.. ومن يقتل أمه.. ومن تقتل زوجها من أجل عشيق ومن تقتل طفلها ومن يقتل زوجته لكى يتزوج امرأة أخرى.. ولماذا كل هذا العنف في حياتنا؟ أحيانا أقول إنه الجهل وعدم الثقافة ولكن ما أكثر الجرائم التي ارتكبها متعلمون ودارسون.. وفى أحيان أخرى أقول إنه الفقر ولكن ماذا عن أسر غنية قتلت.. وقد أرى أن العنف أصبح جزء من حياة الإنسان المعاصر وأن روائح الدم التي أغرقت وجه العالم تسللت إلى عيون وقلوب ومشاعر الصغار..ان الحروب والقتل والإجرام على الشاشات والمواقع تنقل كل يوم لملايين البشر وجه حضارة فقدت إنسانيتها وتحولت إلى مذابح بشرية، إن لون الدم الذي اغرق الشاشات سنوات طويلة هو الذي جعل الطفل الصغير يعتاد على ما يرى، وحين كبر تحول إلى قاتل لأن القتل على شاشة التلفاز أو شاشة الهاتف كان شيئا عاديا .. كان الأطفال في زمان مضى يلعبون بالخيول والعرائس والآلات الموسيقية والآن يقتلون بعضهم بالألعاب الإلكترونية ويتعلمون العنف على الشاشات..على جانب آخر فإن أفلام القتل والعنف التي انتشرت في العالم كله أصبحت غذاء إجراميا دائما للأطفال الصغار من كل جنس ولون ولغة..إن أكثر الأفلام رواجا في عالم الطفولة هي أفلام الرعب والعنف والدمار.. إن هذا يعنى أن الإنسان لا يولد قاتلا ولم يرضع جرائم العنف من لبن أمه، ولكن هناك عالما فرط في مسؤوليته الإنسانية والأخلاقية وأصبح العنف فيه مصدر ثراء وأموال، وصار القتل عادة يومية لا يمكن التخلص منها إلا بالإيمان الجازم أن نبينا هو نبي الرحمة، ومولده كان بلسما للإنسانية من عللها، فما أحوجنا أن نستحضر هذه المعاني في ذكرى مولد خير البشر.
إن مثل هذه الانحرافات عن قيمنا الخالدة، لم تكن يوما في سجلات الشارع المغربي، وإن كانت فإنها لم تتجاوز حالات فردية قليلة جدا.. ولكن الخطير في الأمر أنها الآن أصبحت حالات وجرائم شبه يومية تنقلها لنا وسائل الإعلام.. إن السكوت على هذه الظواهر جريمة اكبر لأننا نترك النيران تحاصرنا من كل مكان والغريب أن مثل هذه الجرائم ارتبطت دائما بالظروف الاقتصادية في الأحياء الفقيرة حين تنام الأسرة كلها في غرفة واحدة وما ترتب على ذلك من زنى المحارم..إلا أن هذه الجرائم انتقلت إلى فئات أخرى تحت تأثير المخدرات وأطفال الشوارع بجانب غياب الأسرة وتراجع الدرس القيمي من المقررات الدراسية، والدور السلبي لأجهزة الإعلام ومسلسلاتها الهابطة.. إن القضية لا تحتمل التأجيل خاصة أنها بدأت تسري بين الأعمار الصغيرة من الأطفال والشباب العاطل ومع غياب دور المجتمع أصبحت الكارثة اكبر.. في زمان مضى كانت هناك أشياء تسمى شهامة الرجال.. ورجولة أولاد الناس، ولكن جرائم اليوم محت آثار هذا الزمن الذي كان جميلا وشهما .. ابحثوا عن كارثة اسمها الانحطاط الأخلاقي الذي أصاب الشارع المغربي وانفجرت بالوعات الرذائل والجرائم و الشتائم والبذاءات فى وجوهنا جميعا، وللأسف أن الجميع يستنكر والجميع يساهم في هذا الوضع، فهل هذا الجيل الذي تفنن في أنواع الحلاقات والألبسة وتجرد من أخلاق مجتمعه وقيمه سيكون منهم المسؤول والبرلماني والوزير والمدافع عن مصالح وطنه وقيم مجتمعه؟ ما هذا المستنقع الذي طفح علينا جميعا ومن أين جاء؟ كيف تسربت هذه النقائص إلى قيمنا التي كانت تعتمد على الاحترام المتبادل والحق في الاختلاف وتكريم الإنسان وتقديره، لتفسد علينا تاريخا طويلا من النبل والترفع والأخلاق..إن إصلاح الفساد الأخلاقي والسلوكي اخطر أنواع العلاج لأنه يمثل رواسب أخطاء وخطايا في الأسرة والمدرسة والشارع والعمل وقبل هذا في الثقافة والإعلام.. لا بد أن نعترف أننا نجني ثمار تخلي أسرنا عن شيء إسمه التربية واكتفت بكل ما هو مادي ونفعي، لم يعد صوت يعلو داخل الأسر كيفما كان موقعها في الهرم الاجتماعي على صوت التهافت على المال وجنيه بكل الوسائل، حتى عاد جيل اليوم معروفا بجيل الربح السريع والأكلة السريعة الجاهزة… ولا بد أن نعترف أننا نحصد ما روجنا له إعلاميا وفنيا من مسلسلات وأفلام ومهرجانات هابطة تروج لثقافات الانحلال والشذوذ والتنكر للقيم.. وما أشأمه من حصاد.