بقلم: عبد المنعم سبعي
بين الفينة والأخرى تطالعنا بعض المواقع الإخبارية بأخبار زائفة تخلق نوعا من الدهشة والتساؤل، وتترك المتتبع في حيرة من أمره، وأعتقد أن مثل هذا السلوك لا يمت بصلة للإعلام الرصين المتزن، لأن لمهنة الإعلام سلوكيات وضوابط أخلاقية ينبغي أن تستحضر في كل لحظة من لحظات الفعل الإعلامي، وإلا تحول المشهد إلى رقص مجنون.
نكاد نطلق على السنوات القليلة الماضية بغير قليل من الجزم، السنوات العجاف، فقد شهد المغرب خلالها ظروفا صعبة وغير منتظرة، ما بين أحلام التغيير والرخاء المنتظرة من تفعيل دستور 2011، وبين قيود الارتباك وغلاء الأسعار والإصلاحات التي دفع ثمنها المواطن البسيط والموظف المقهور..
بين الرخاء الذي غاب والحلم في التغيير الذي تراجع، عاش المغاربة تجارب كثيرة في هذه السنوات، إلا أن الشيء المؤكد وسط هذا الكم من الإحباطات أن هناك أشياء كثيرة تغيرت في الواقع المغربي والمواطن المغربي وصورته أمام العالم .. هناك سلبيات طفحت على وجه الشارع المغربي في السلوكيات والأخلاق وهى نتيجة طبيعية للفقر والجهل والتخلف، ومن بين المجالات التي كشفت هذا الواقع المتخلف المريض للمجتمع المغربي، الإعلام الجهوي وهو يعيش أسوأ حالاته فكرا وسلوكا مقارنة مع أزهى أيامه انطلاقا وبداية.. وهذا تناقض غريب أن يزداد الانتشار وتتراجع القيمة.. أن ينمو التأثير وتضعف المسؤولية أن نتابع كل شيء ولا نشعر بقيمة أي شيء.
هذا التكدس الرهيب في المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي والهاتف المحمول، عوض أن يسهم في تنوير المجتمع المغربي أسقطه في مستنقع من الإسفاف والانحدار وغياب المفاهيم والمسؤولية .. لقد لعب الإعلام الجهوي منذ ظهوره في العالم دورا كبيرا في إشاعة الخبر وتقديسه، وإحاطة التعليق والتحليل بقدسية الحرية البناءة.. هذا الإعلام استطاع في بدايته أن يكون صاحب دور ورسالة، وبقدر ما صال وجال في معارك اجتماعية وسياسية وفي محطات متعاقبة، بقدر ما سقط مرة واحدة في مستنقع الإسفاف أمام فهم خاطئ للحرية، كما سقط في مستنقع الابتزاز أمام تفشي ظاهرة الاسترزاق الصحفي. إن الإعلام الجهوي يخسر كل يوم الكثير من قواعده وآثاره وثماره المرجوة أمام كم كبير وخبرات هزيلة وغياب تام لأهم عناصر الممارسة الإعلامية وهي القيمة والمسؤولية .
صحيح أن الإعلام الجهوي هو الأصل وأنه كان في السابق مسلكا من مسالك الديمقراطيات العتيدة ، لكن حينما يتهاوى الإشعاع الذي يعطي قيمة للشيء المنبعث منه، يتساوي الماس مع التراب.. ويتساوي ماء النهر مع بقايا المستنقعات. وهذا الشيء الذي يضئ ويشع يمنح صاحبه المصداقية والجلال والهيبة.. ومن هذه الهيبة نعرف قيمة هذه الأشياء.. فالصحيفة والموقع ليست مجموعات من الأخبار والمقالات والفيديوهات، وليست عددا من الصفحات المتنوعة بتنوع أغراضها ولكنها مصداقية ووجه من أوجه الديمقراطية، وموقف جاد وإحساس بالمسؤولية.. وحين تسقط هيبة الإعلام تتحول إلي مجرد أشباح تتحرك في فراغ سحيق.. وحين يتحول الإعلامي الي بهلوان يفقد احترام القراء ولا يجد منهم غير النكران والجحود.. وحين يسقط عرش صاحبة الجلالة يسقط معها موكب الحقيقة وقدسية الخبر.. هذا يعني أن الإعلام يستمد القيمة من الأثر وحين يفقد القيمة يتراجع الدور والأهمية..
إن آفتنا اليوم تتمثل في فساد بعض المحسوبين على الإعلام الجهوي والشيخوخة المبكرة التي أصابت بعض المنابر الجهوية، ولا غرابة أن نرى منابر بلا مقرات وصحافة بلا صحافيين ولا غرابة أن تصلنا أخبار المتابعات القضائية لصحافيين في قضايا النصب والاحتيال، وتزكمنا مظاهر الابتزاز وتغيير الحقيقة والانغماس في حمأة الفساد، إنه وجه من أوجه غياب صوت الحكمة، وعندما يغيب صوت الحكمة يتبدل السدنة والكتبة والعرافون إلى طبالين وعازفي المزمار، وإذاك يبقى أمر إمعان النظر في مرآة الحقيقة آكدا في الوجوب، لتظهر المثالب والعيوب بكل الوضوح اللازم، ولتفادي المفاجآت التي قد يحملها الآتي من الأيام. فالكلمة والرأي والصورة باتت سيدة العالم، تصنع حالة، وتقدم واقعا وربما تملي موقفا، إنها أقوى الإرادات في عصرنا وأقوى مواقع التأثير وأشدها خطرا.
هذه ملامح واقعية تؤكد أن إعلامنا الجهوي يسير في الطريق المنحرف، والغريب في الأمر أن الدولة حائرة أمام عجزها عن مواجهة قضايا الانفلات الإعلامي بالرغم من دخول قانون الصحافة الجديد حيز التنفيذ، إن جميع المسؤولين في الدولة يتحدثون الآن عن القصور الواضح في أداء الإعلام. إن هذا الإعلام المرتبك كان سببا رئيسيا في حالة الفوضى التي يعيشها الشارع المغربي وما بين تجاوزات دينية وأخرى أخلاقية وزعامات ورقية كاذبة وتجارة بالجنس والعفاريت، تدور عجلة الإعلام وكأنه ليث تربى داخل أسرة صغيرة وحين كبر وأصبح أسدا التهم الجميع.