محمد حملس: باحث في التاريخ والتراث
لا يمكن حصر تعريف واحد للبيئة بقدر ما يمكن إطلاق مفاهيم عدة تروم تحديد البيئة وفق السياق الذي نروم الاشتغال عليه انطلاق من معطياته المحددة. من هنا يمكن تعريف البيئة كونها ذلك الفضاء المكاني الفيزيائي، أو الطبيعي الذي يحيى ويلتئم فيه عيش كل من البشر والحيوان والنبات والجماد. لكن هناك بيئة أخرى اصطناعية هي تلك التي أنشأها الإنسان، منها المدن والمصانع وغيرها من المنشآت.
ويذكر خليل البدوي في كتابه (موسوعة شهيرات النساء)، الصادر عن دار أسامة للنشر، الأردن، عمان، ص. 257، ط1، 1998، أن امرأة عاشت في عهد الإغريق القدامى، تسمى هيجيينا، يعتقد أنها أسطورية، وبقيت حاضرة في التاريخ، لأنها أول من دعا للحفاظ على الصحة بالنظافة، ومنها اشتق اسم hygiene، وقرنوا اسمها باسم أبيها إله الطب أسكليبيوس Asclepios الذي يهب الشفاء، وجاء هذا الاهتمام بصحة الفرد، إلى أن جاء الرومان الذين اهتموا بنظافة المجتمع، حيث زودوا المدن بالماء وميزوا بين الصالح وغير الصالح منها، وعند سقوط الإمبراطورية الرومانية تراجع هذا النظام، فحملت الحضارات البشرية المتتالية الكثير من التغييرات التي طالت مختلف مناحي الحياة العامة. وبالوقوف عند عنصر الصحة الذي ارتبط بشكل كبير بالنظافة وما تسبب فيه البشر من كوارث بيئية، سوف نحصي العديد من الأمراض التي فتكت بملايين الأرواح البشرية، منها الملاريا والكوليرا والجذري والطاعون وغيرها من الأمراض المنتقلة الفتاكة، وفي المقابل رافقتها العديد من الاكتشافات للقاحات تقي البشر من خطر الموت، منها لقاح الجذري من طرف الطبيب البريطاني سنة 1796، ودخلت مادة الصحة العامة كليات الطب سنة 1794 في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، فبدأ الاهتمام بالأمراض المهنية وحياة العمال، حيث صدر أول تشريع عام 1802 لحماية صحة اليد العاملة من الأطفال في أنجلترا، فقد أشارت الإحصائيات التي نشرها أدوين شادويك E.Chadwick الإنكليزي في عام 1842، إلى أن نصف أطفال الطبقة العاملة يموتون قبل الخامسة من عمرهم وأن متوسط العمر في المدن الصناعية في بريطانيا هو 36 عاماً للطبقة العليا، و22 للوسطى، و16 للعمال. وعند نهاية سنة 1840 أكد الطبيب البريطاني ج. سنو J.Snow أن وفيات الكوليرا إنما هي بسبب الماء الشروب، حيث يتلوث الماء ببراز المصابين بالداء… مما أدى إلى إنشاء أول وزارة للصحة في العالم بلندن عام 1848، هكذا جرى الاهتمام الكبير والعناية الفائقة لتوزيع الماء الشروب في المدن وضرورة حماية مصادره وكذا الاهتمام بسكن أفراد المجتمع ومرافق عيشهم التي يترددون عليها ونمو الفرد وتوعيته بالمخاطر التي تتهدده بسبب تعامله الفج مع وسطه الحيوي… كل هذا وغيره، ناهيك عن ملايين الأرواح التي حصدتها الحروب ومخلفاتها وآثارها السلبية على البيئة.
في سنة 2000، خرج للقاعات السينمائية فيلم طويل من إخراج البريطاني ”كين لوتش” عن كفاح عمال النظافة بمدينة لوس أنجليس لتحسين أوضاعهم والحق في التنظيم النقابي، فجاء الفيلم لينقل الوضع المزري لهذه الفئة التي غالبا ما لا يلتفت إلى جهدها أحد، رغم ما تقدمه من خدمات أساس للبيئة والبشر، باعتبار أن الكائن البشري عنصر حيوي داخل منظومة البيئة، فكان أن اتصل بالمخرج المذكور، عدد كبيرا من عمال النظافة من أزيد من 30 بلدا يعبرون عن أن الفيلم يعكس معاناتهم، وذلك خلال مقابلة إذاعية مع المخرج ”كين لوتش”، الشيء الذي يؤكد أن المعاناة واحدة لعمال النظافة أينما وجدوا، ومرد ذلك في نظرنا لكون التعامل يتم مع الكائن البشري الذي يتدخل في الطبيعة ويغير أشياء كثيرة فيها، فيخدش ذلك الوجه الجميل في الطبيعة.
فالكائن البشري يعيش في وسط حيوي، وهو وسط ضروري للحياة، حياة البشر وجميع الكائنات الحية والجماد أيضا. لكنه ظل يعبث بهذا الوسط رغم أهميته وضرورته، كالماء والهواء والتربة، ثم هناك الضرورة الاقتصادية التي تجعل الإنسان في أمس الحاجة لهذا الوسط الحيوي. وبالعودة لماضي البشرية سوف نلحظ أن علاقة هذا الكائن البشري مرت بمراحل عدة تبين هذه العلاقة التي تعكس ثقافته ونظرته للبيئة، وهي علاقة تنبني على التأثر والتأثير بين مختلف مكونات الوسط الحيوي، وبالتالي، كان بديهيا أن يتعامل البشر مع البيئة بقلق وخوف واستكشاف وفضول، أي بسلوك يشوبه الكثير من الحذر، فجاء التعامل بسيطا، انتقل من التغذية على النباتات والأعشاب والسكن وصناعة الأدوات والأسلحة، إلى القنص ثم الزراعة وبعدها الصناعة، وفي كل مرة يتجلى تأثير الكائن البشري في الطبيعة والبيئة واضحا كبيرا وملموسا، حيث عمل على استغلال الطبيعة وفق متطلباته وحاجياته اليومية والمستقبلية، إلا أن نهمه ظل يتفاقم، فباتكر العديد من التقنيات والآلات وسخر التيكنولوجيا لإلحاق الضرر الكبير بالبيئة، لأن الصناعات أفرزت العديد من مظاهر التلوث البيئي بسبب مخلفات المصانع والمبيدات الكيميائية والإشعاعية وغيرها … فاتضح جليا الأثر السلبي للسلوك البشري على البيئة، الشيء الذي حدا بهذا الكائن البشري للبحث عن سبل للحد من الخطر الذي يتهدد البئية وسلامته هو نفسه، علما أنه هو من تسبب في تردي الوضع البيئي، فظهرت العديد من المنظمات والجمعيات الحكومية والمدنية التي تنادي بضرورة حماية البيئة وفق رؤية علمية تحد من الخطر الذي يتهدد كوكب الأرض.
وبالعودة لواقع الحال سوف يلاحظ المتتبع انقراض عدد لا حصر له من الحيوانات والطيور التي كانت تحافظ على التوازن البيئي، ثم النقص الكبير في الفرشة المائية بسبب سوء التدبير والاستهلاك غير المعقلن، ثم القضاء على الغطاء النباتي بسبب زحف البناء والإسمنت والنمو الديمغرافي المتزايد … فاتضح أن الإنسان قد فقد علاقة الثقة وتلك البراءة التي ربطته بمحيطه البيئي …
وكلما قارنا الحاضر البشري بماضيه، سوف نلحظ ذلك التراجع الكبير في التعامل مع البيئة، لأن البشري القديم كان حريصا على نظافة بيئته، فالإغريق كانوا يسمون النظافة ب”فن الصحة”، ثم سوف نجد أن كل الديانات السماوية أقرت مبدأ النظافة والحفاظ على المحيط البيئي، فبالإضافة لكون النظافة تحافظ على الصحة فإنها أيضا تحافظ على الجانب الجمالي في حياة الكائن البشري، لأن النظافة دليل على الحياة.
فكان لزاما تنظيم عملية تدبير النفايات والاهتمام بالوسط البيئي للكائنات الحية، عبر ابتكار عدد من الأساليب أولاها عمال النظافة، الذين توظفهم شركات مختصة لتولي عملية تنظيف الوسط البيئي بشكل يومي … ويكفينا طرح سؤال، ماذا لو يكن هناك عمال نظافة؟؟ حتما يحمل السؤال جوابا عما سوف يؤول إليه وضع الكائن البشري نفسه الذي يتسبب في تدمير وسطه الحيوي، من خلال التعامل الجائر مع البيئة والحروب.
طبعا، انعكاسات هذا الوضع على حياة الكائنات الحية، استدعى اهتماما كبيرا بالبيئة، وأفرز علما خاصا يهتم بدراسة مختلف العلاقات المتداخلة بين الكائنات الحية مع بعضها الـبعض وبين عوامل البيئة المحيطة. فبرز علم البيئة. فالإنسان القديم ظل يكتشف محيطه ويطلق الأسماء على النباتات والحيوانات ويختبرها ويميز المضر والنافع منها ونموها وعيش الحيوانات والمفترس منها، بفضل التجريب والخبرة التي أملتها الحاجة اليومية والوسط الحيوي المشترك مع الكائنات الأخرى، لينتقل هذا التفاعل، مع مرور الزمن، إلى علم وفق ضوابط ومناهج علمية، هو علم البيئة الذي تتفرع عنه عدة علوم، منها علم الأثار البيئي الذي يهتم بالنباتات والحيوانات والتربة القديمة، ثم علم الأيكولوجيا.
ـ نص المداخلة ساهمت بها في الندوة المنعقدة بالمركز الثقافي، وجدة، يوم 31 دجنبر 2017، حول الصورة النمطية لعمال النظافة، من تنظيم جمعية لرسام بتعاون مع الجماعة الحضرية والمديربة الجهوية للثقافة وشركة سيتا للنظافة وجمعية الأعمال الاجتماعية لعمال النظافة .. بوجدة